«الحمد لله الذى ابتدأ الخلق بنعمائه، وتغمّدهم جميعا بحسن بلائه، لا يشتمل عليه زمان ولا يحيط به مكان، خلق الأماكن والأزمان {ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} فقدّرها أحسن تقدير، واخترعها من غير نظير، لم يرفعها بأعمدة تدرك بالمعاينة، ولم يستعن عليها بأحد استكبارا عن الشركة والمعاونة، وزيّنها للناظرين، وجعل فيها رجوما للشياطين {(فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)} جعل القرآن إماما للمتقين، وهدى للمؤمنين، وملجأ للمتنازعين، وحكما بين المتخالفين، ودعا أولياءه المؤمنين إلى اتباع تنزيله، وأمرهم عند التنازع فى تأويله بالرجوع إلى قول رسوله، فقال الله عزّ وجلّ:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}.
وهذه الخطبة أو العظة تصور نهاية تطور كبير حدث فى كتابة النثر الأدبى، فقد بدأ بسيطا عند الإمام أبى اليقظان محمد بن أفلح، واتسع هذا الرقى عند ابنه الإمام أبى حاتم يوسف لا من حيث انتخاب الألفاظ فحسب، بل أيضا من حيث ما يشيع فيها من السجع ومن التوازن فى العبارات والمقابلات الدقيقة. وتمضى بجاية وشرقى الجزائر فى عصر الحماديين والموحدين ثم الحفصيين بالعناية فى الخطابة والعظات، وتتردد فى الكتب أسماء خطباء فى الجامع الأعظم ببجاية أو بقسنطينة ولكن الكتب لا تحتفظ حتى بشظايا من خطبهم، سوى أن يقال مثلا إن فلانا ولى خطابة الجامع الأعظم ببجاية أو جامع القصبة بها أو جامع الموحدين وكان فصيح القلم واللسان. ويكتفون بذلك دون أن يذكروا شيئا من خطبه الفصيحة أو البليغة، أو يقولون مثلا إن أبا تمام الواعظ الوهرانى سكن بجاية واشتغل فيها بالتذكير واستدعاء الخلق لباب الله تعالى، ولا تذكر لنا كلمة من مواعظه. ويمكن أن نجد صورا من العظات فى نثر الأذكار والأوراد التى كان يرددها المتصوفة عقب الصلوات، ونقتطف كلمات مما كان يردده على بن أحمد الحرالى عقب صلاة الصبح إذ كان يجلس فى مصلاّه متربعا ويردد بعض أقوال له منها (١):
«سبحان من سبقت رحمته غضبه، سبحان من لا منجى ولا ملجأ إلا إليه، يا مثبّت القلوب ثبّت قلبى. العقل أصل دينى، الحب أساسى، ذكر الله أنسى، الثقة كنزى، العلم سراجى، الصبر ردائى، الرضا غنيمتى، الزهد حرفتى، اليقين قوتى، الطاعة حسبى، الجهاد خلقى، قرة عينى فى الصلاة».
والمئات بل الآلاف من مواعظ الخطباء والأوراد والأذكار كانت تقرع أسماع الناس كل يوم فى بجاية وقسنطينة وغيرهما من بلاد الجزائر. وكان النساك وأهل الصلاح يكتبون أحيانا