للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لابن تومرت مهدى الموحدين. وهذا الطول فى السجعات قصد إليه قصدا، لكى يضمّن كل سجعة فى داخلها سجعتين أو أكثر. وهو يبتدئ ذلك منذ السجعة الثالثة: «وبلّغهم فى أعدائهم الذين ولوا أمر الله وقد استقبلهم جانب الإعراض والإدبار، و (بدّلوا نعمة الله كفرا وأحلّوا قومهم دار البوار) أمانىّ الظافر الغالب. والسجعة بائية وفى داخلها سجعتان رائيتان حتى تتشابك الكلمات فى داخلها وتتعانق، فيتم بذلك تناسق صوتى بديع. وهو تناسق تضيئه آية قرآنية وتزينه وتضيف إليه روعة. وتليها هذه السجعة: وو كلّ بهم أيّة ولجوا وعلى أى مدرج درجوا، من النصر المحالف المصاحب، ما يكون لعامة أكنافهم، وجنبات أوساطهم وأطرافهم، عين المحافظ المراقب». وفى داخل السجعة البائية سجعة جيمية فى أولها ثم سجعة ميمية، وكأن الكلمات داخل السجعة تريد أن تتعانق عن طريق هذه الإرنانات المتلاحقة. وتكثر بجانب ذلك الصور والاستعارات، ويكثر تلاحم الألفاظ لدقة انتخابها واختيارها مما يدل على أن القالمى كان كاتبا بارعا حقا.

والرسالة طويلة، غير أنها-بجانب بلاغتها-ذات أهمية تاريخية فإن القالمى يذكر أنه لم يعد للقبيل الرياحى من بنى هلال المستولى على أنحاء كثيرة فى الجزائر ذكر يسمع ولا حديث يرفع، ولا أثر يتقصّى ويتتبّع، إذ لحقوا بقبيل العدم وأصبحوا كهشيم ألهبته نفحة ضرم (شرر) ولم يجدوا إلى مستخلص سبيلا ويتمثل بالذكر الحكيم: (أينما ثقفوا أخذوا وقتّلوا تقتيلا) إلا ما كان من قبيلة بنى محمد الرياحية، إذ ألقوا بمقاليد الانقياد، وانخرطوا فى سلك أهل التوحيد بجميع الأنفس والأموال والأولاد، وربطوا أنفسهم مدى أعمارهم على مضافرة (١) الغزو ومصابرة الجهاد. وأما قبيلة جشم فهم بمحلات أهل التوحيد معسكرون وعلى أعدل طريق المطاوعة والمتابعة مستمرون، وهم عدد لا يحمله إلا البساط الفيّاح (٢)، وكل من هذين الحيّين: الجشمى والفخذ المحمّدى الرّياحى عزم-وعزم به-على أن تختطّ إن شاء الله بالمغرب دارهم، ويبوّأ هنا لك قرارهم ويقصر على خدمة هذا الأمر العزيز (يقصد دعوة الموحدين) جوارهم. فالحيان الأعرابيان الكبيران: فخذ بنى محمد الرياحى الهلالى وفخذ جشم سيختط لهما منازل فى الديار المغربية يكون فيها مستقرهم. وأما قبائل الأثبج وزغية فيقول القالمى عنهم إن أعيانهم وصلوا مراكش عاصمة الموحدين يمدون يد الاستتابة، ويطلقون ألسنة الإنابة والعودة إلى الطاعة. يقول القالمى: «وعلى الجملة فقد أظهر الله تعالى من بركة هذه الحركة الميمونة السعيدة ما لم يكن ينشأ بسماء الوهم والإحساس، ولا يجرى على أساليب القياس». فإن من درس القرن السابق لتلك الحركة وتسلط الأعراب فيه على المغرب الأوسط وتونس يظن أنهم لن يغلبوا على ما فى أيديهم، حتى كانت هذه الحركة لعبد المؤمن بعد أن


(١) مضافرة: معاونة.
(٢) الفياح: المنداح، الواسع.

<<  <  ج: ص:  >  >>