المغرب الأقصى، وأعجبهم موقع غربى مصب نهر الملوية سموه «روسادير» وهو نفس موقع مليلة الحالية وهو فى صدر خليج يساعد على رسو السفن فيه، وكأنما اختاروه للاتصال عن طريقه بسلع منطقة فاس الغنية. واختاروا فى آخر ساحل المغرب الأقصى الشمالى موقعا مطلا على المحيط الأطلسى ويطل من الشمال الشرقى على مضيق جبل طارق، سموه «طنجة» والسهل من ورائها خصب ومتسع ووافر الغلات. وكما مدوا ذراعهم شمالا فى إسبانيا إلى «قادس» مدوه جنوبا فى المغرب الأقصى إلى أصيلا نحو سبعين ميلا من طنجة، وهى فى نفس إقليمها الخصب. وفى كل المواقع التى أقام الفينيقيون لهم فيها مدنا بالساحل المغربى جميعه استقرت حضارتهم الفينيقية قرونا وأجيالا متعاقبة منذ القرن الثامن قبل الميلاد على الأقل وفى القرون التالية. وكانوا شعبا عريقا فى الحضارة لا فى شئون الملاحة البحرية وبناء السفن فحسب، بل أيضا فى كثير من شئون الزراعة والصناعة: صناعة الزجاج الملون وغيره، وبثوا ذلك كله بين كثيرين من سكان المغرب، ولا بد أن بثوا بينهم أبجديتهم التى وضعوها على هدى الأبجدية الهير وغليفية المصرية، بعد أن أدخلوا فيها غير قليل من التعديل بحيث صارت أساس الأبجديات العالمية، وتعلم بعض المغاربة أبجديتهم ولغتهم، ومعروف أنها لغة سامية. والتقى دين الفينيقيين الوثنى بدين المغاربة الوثنى فى كل مكان، وكان سكان المغرب الأقصى-مثل بقية سكان المغرب والفينيقيين-يعبدون الشمس والقمر، ويعتقدون بوجود أرواح مقدسة فى بعض الأشجار والأحجار والطير والحيوان.
ولا نبالغ إذا قلنا إن الفينيقيين فى عصرهم الممتد قرونا نقلوا المغرب الأقصى وغيره من البلدان المغربية من حياة البداوة إلى حياة جديدة من التحضر، فقد تعلم المغاربة على أيديهم كثيرا من شئون التجارة وزراعة الحبوب والبقول والخضر وغرس بساتين الفواكه وأشجار الزيتون وتربية المواشى وصناعة السفن واستخراج المعادن من الحديد والنحاس وغيرهما وصنع الأوانى وحلىّ الزينة وحياكة الملابس والدباغة، وعرفوا منهم-فيما يظن-صناعة العطور والعقاقير.
ومن المراكز التى أسسها الفينيقيون لتجارتهم مراكز فى شمالى صقلية من أهمها بالرم، وتبعهم اليونان-فيما بعد-وأسسوا لهم مراكز فى شرقى صقلية بمسينا وسرقوسة وقطانية، وكان ذلك فى نشوب الحرب بالقرن السادس قبل الميلاد بين الشعبين أو الفئتين، وظلت طويلا بينهما دون أن ترجح كفة إحداهما رجحانا نهائيا ومنذ أواسط القرن الثالث قبل الميلاد تتدخل روما وتحاول إزالة القرطاجيين الفينيقيين من صقلية ومن الساحل الإفريقى ونشبت الحرب بين الفئتين لمدة نحو مائة وعشرين عاما (٢٦٤ - ١٤٦ ق. م) ويكتب النصر أخيرا لروما وجيشها، فيقضى على قرطاجة قضاء مبرما، ويهدم مبانها الشاهقة، ويبنى بجوارها قرطاجة جديدة، وتستولى روما على كل ما كان بيد القرطاجيين الفينيقيين من بلدان وأقاليم فى إفريقية