لأنه كان مريضا وصمم على أن يحضر المعركة، وكان أخوه أحمد هو الذى يدبّرها، وكتم خبر وفاة أخيه عن الناس حتى لا يعكر عليهم فرحتهم بهذه المعركة الفاصلة: معركة وادى المخازن التى أعطت البرتغاليين درسا أن لا يفكروا مرة ثانية فى إنزال جيش لهم بالمغرب الأقصى، وأخذوا ينسحبون من المواقع التى استولوا عليها بشواطئ المحيط وأحيانا كانوا يتركونها لجارتهم إسبانيا.
وتولى بعده أخوه أحمد الذى اكتسب لنفسه فخر النصر المجيد فى معركة وادى المخازن، إذ كان هو الذى أدارها، وبايعه الناس مبتهجين به وتلقب بالمنصور، وكان حاكما عظيما كبير الهمة بصيرا بشئون السياسة، ومن أعماله إنشاء ما أسماه الديوان وهو مجلس شورى ينعقد كل يوم أربعاء من الأسبوع-ويضم بعض رجال الدولة وبعض الشخصيات-للنظر فى الشئون السياسية والمصالح العامة، وأعاد تنظيم الجيش تنظيما جديدا جامعا فيه بين النظام المغربى والنظام التركى، وكانت بعض أقاليم الصحراء فى الجنوب قد خرجت عن طاعته، وخاصة إقليمى توات وتيكورارين فأرسل إليهما جيشا قويا أعادهما إلى طاعته. وكانت مملكته تتاخم فى الجنوب أقطار السودان فانتشر فيها الحديث عنه، ودخل ملك برنو فى طاعته مما جعله يطمح للاستيلاء على السودان الغربى جميعه فأرسل إليه جيشا ضخما فى نهاية القرن العاشر الهجرى واستطاع الاستيلاء عليه، وبذلك امتد نفوذه جنوبا إلى أقاليم سودانية لم يصل إليها نفوذ المغرب فى أى عصر قبله. ووضع يده على منابع الثروة الضخمة فى هذه البلاد، حتى كان الذهب يجبى إليه منها بالأحمال ولذلك لقب بالمنصور الذهبى، ويقال إن عدد من كانوا يضربون السكة أو العملة الذهبية فى عهده بلغ ألفا وأربعمائة. وهذا الغنى الطائل للدولة وتجارها وأهلها هيّأ لها ازدهارا فى الحضارة وما يتصل بها من الصناعات وضروب الحياة، وكثر حينئذ إنشاء القصور ومن أهمها قصر المنصور الذى سماه باسم البديع، وقد استغرق بناؤه ثمانى سنوات، وأنفق عليه أموالا طائلة. وتوفى سنة ١٠١٢ هـ/١٦٠٣ م.
وبعد وفاة المنصور تنازع أولاده الثلاثة: زيدان وأبو فارس ومحمد الملقب بالمأمون، ونودى بزيدان سلطانا فى فاس وبأبى فارس سلطانا فى مراكش، وتحاربا وانتصر أبو فارس، غير أن أهل فاس فضلوا الخضوع للمأمون، فنودى به سلطانا سنة ١٠١٣ هـ/١٦٠٤ م واغتيل أبو فارس، وحدثت طامة كبرى بتنازل المأمون للإسبان عن مدينة العرائش على ساحل المحيط جنوبى منطقة الهبط سنة ١٠١٨ هـ/١٦١٠ م وبذلك عادت الاستعانة بالعدو الأجنبى، ونشبت فتن واضطرابات، ونودى بالابن الثالث للمنصور: زيدان سلطانا، وظلت الاضطرابات وتوفى سنة ١٠٣٨ هـ/١٦٢٨ م وتنازع الملك أولاده الثلاثة عبد الملك والوليد ومحمد شيخ وتوفى الأخير سنة ١٠٦٥ هـ/١٦٥٤ م. وبوفاته ينتهى حكم هذه الأسرة، وهو فى الواقع قد انتهى منذ تسليم المأمون ميناء العرائش للإسبان، إذ اتسع نفوذ الطرق الصوفية وأصبحت هى التى