للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قبورهم، بل أصبحت قبورهم حواصل الطير. ويقول الحصرى نزيل سبتة يصف بأس المرابطين وشجاعتهم:

بنو الحرب غذّتهم لبان ثديّها ... وما استعذبوا منهن إلا العلاقما (١)

يحثّون للهيجاء جردا سلاهبا ... وينضون فى البيداء بزلا صلادما (٢)

إذا طعنوا بالسمهريّة خلتهم ... ضراغم تغرى بالقلوب أراقما (٣)

وإن كرّ منهم ذو لثام مصمّم ... غدا لفم الهيجاء بالسيف لاثما (٤)

والحصرى يقول عن المرابطين إنهم بنو الحرب رضعوا لبان ثديها، مستعذبين منها العلاقم وأشدها مرارة كناية عن حسن بلائهم فى الحروب الضارية، وإنهم ليحثون لها خيلا جردا مقدمة ويضنون فى البوادى إبلا متينة صلبة، وإنك لترى الرماح فى أيديهم يدسونها-كأنها أفاع-فى قلوب أعدائهم، وإنك لترى الملثم منهم إذا صمم وكرّ كأنما يريد أن يقبّل الحرب بسيفه، الذى يستأثر منه بكل مشاعره. وأنشد المقرى فى الجزء الرابع من أزهار الرياض للقاضى عياض السبتى مقطوعة بديعة يهنئ بها-كما نظن-على بن يوسف بن تاشفين بزفاف ولى عهده تاشفين على عروسه منشدا:

ليهن العلا أن زفّت الشمس للبدر ... وحلّى جيد الملك بالأنجم الزّهر

وقرّت عيون المجد أيّة قرّة ... بيوم تعالى أن يكون من الدّهر

لدن ساعة أفضت إلى كل بغية ... كما اعتلق الغوّاص بالدرّة البكر

قران كلا السّعدين فيه تلاقيا ... كما يلتقى فى المقلة الشّفر بالشّفر

لتجر المنى فى حلبتيه مغذّة ... فحقّ لها فى مثل ذلك أن تجرى (٥)

بسعد أمير المسلمين تطلّعت ... أساريره تندى بمائيّة البشر (٦)

تمنّاه نجل الملك حظا ممتّعا ... بعزّ إلى عزّ وقدر إلى قدر

وهو يقول: لتهنأ العلا فقد زفّت الشمس الساطعة إلى البدر المنير، وزيّن جيد الملك بالأنجم المتلألئة، وأصبح المجد قرير العين بيوم زفاف تسامى على الدهر، حين أتيحت لولى العهد كل أمنية، وظفر بها ظفر الغواص بالدرة اليتيمة، وإنه لقران تلاقى فيه سعدان كما يتلاقى فى العين الجفنان، ولتجر المنى فى حلبتيه وتمرح ما شاء لها المرح، فذلك سعد أمير المسلمين، وتلك أساريره يترقرق فيها رونق البشر، وهو كل ما كان يتمناه نجله حظا سعيدا هانئا بعزّ


(١) العلاقم: جمع علقم: شديد المرارة.
(٢) جردا: قوية. سلاهب: طويلة. ينضون: يهزلون. بزلا: إبلا ناضجة متينة. صلادم: صلبة.
(٣) السمهرية جمع سمهرى: الرمح. ضراغم: أسد. أراقم: جمع أرقم: أخبث الحيات والأفاعى.
(٤) ذو لثام: كان المرابطون يضعون لثاما على وجوههم، ولذلك سموا الملثمين. لاثما: مقبّلا.
(٥) مغذة من أغذ السير إذا أسرع فيه.
(٦) أسارير الوجه: محاسنه. مائية: رونق.

<<  <  ج: ص:  >  >>