للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وإياب يعقوب-فى رأى الجراوى-ليس حياة لشعبه فقط، بل هو حياة الأمم جميعا، إذ يجود الأرض غيث منهمر، ويضيء الظلام بدر فى اكتماله، فشكرا للسفن التى عبرت بها المجاز وللخيل التى حملت لا مستأصل الظلم وناشر العدل فحسب، بل أيضا من يمحو الظلام بنوره، وإن البلاد لتخصب وتطيب ويفوح شذاها حين يحل فيها، وينتشر العدل الذى لا تطيب حياة الناس بدونه ويعمّ الكرم الفياض. وسل الدهر عن قهره للأعداء تجبك من وراء الدروب جموع إسبانيا متوجعة مما يذيقها من البطش الشديد. ولم يلبث نصارى الإسبان أن توجعوا توجعا أليما سنة ٥٩١ هـ‍/١١٩٥ م فإن ألفونس الثامن ملك قشتالة علم أن يعقوب يعد لمعركة كبرى استنفر فيها المغاربة وأعراب الهلالية وأهل الأندلس فاستصرخ البابا وملوك أوربا وحشد جموعه عند حصن يسمى الأرك بين قرطبة وطليطلة. وسحق جيش يعقوب تلك الجموع سحقا ذريعا، وفرّ ألفونس على وجهه لا يلوى حتى طليطلة، وكان نصرا عظيما أعاد للذاكرة موقعة الزلاقة وبطلها يوسف بن تاشفين وتغنى الشعراء بها وببطلها يعقوب طويلا، وللجراوى فيها قصيدتان يقول فى أولاهما:

هو الفتح أعيا وصفه النّظم والنثرا ... وعمّت جميع المسلمين به البشرى

وأنجد فى الدنيا وغار حديثه ... فراقت به حسنا وطابت به نشرا (١)

تميّز بالأحجال والغرر التى ... أقلّ سناها يبهر الشمس والبدرا (٢)

لقد أورد الأذفونش شيعته الرّدى ... وساقهم جهلا إلى البطشة الكبرى (٣)

حكى فعل إبليس بأصحابه الألى ... تبرّأ منهم حين أوردهم بدرا

فدارت رحى الهيجا عليهم فأصبحوا ... هشيما طحينا فى مهبّ الصّبا يذرى (٤)

يطير بأشلاء لهم كلّ قشعم ... فما شئت من نسر غدا بطنه قبرا (٥)

بيمن الإمام الصالح المصلح الرّضا ... نضا سيفه الإسلام فاستأصل الكفرا (٦)

والجراوى يقول إنه فتح أعظم من أن يحيط بوصفه شعر ونثر وقد عمت به البشرى والفرحة جميع المسلمين وملأت تباشيره الدنيا بهضابها وسهولها فازدانت به حسنا وطابت نشرا وعطرا، وإنه لفتح محجّل أغر يبهر ضوؤه الشمس والقمر، فقد أورد ألفونس ملك قشتالة وطليطلة أنصاره مورد الردى والهلاك، ودفعهم دفعا إلى البطشة الكبرى، فذاقوا ما ذاقته قريش يوم بدر، إذ دارت رحى الحرب على جثثهم وأصبحوا أشلاء وطحينا تذروه الرياح، وشبعت منهم الضباع والسباع، وغدت بطون النسور لأشلائهم قبورا طائرة. وكل ذلك بيمن طالع


(١) أنجد وغار: ملأ المرتفعات والسهول. نشرا: رائحة عطرة.
(٢) الأحجال: بياض فى السيقان. الغرر: بياض فى الجباه.
(٣) الردى: الهلاك.
(٤) الهيجاء: الحرب. يذرى: يطير فى الهواء.
(٥) قشعم: نسر مسنّ.
(٦) نضا: سلّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>