للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أو زورة أو وقفة، أو حتى لفظة يدرك بها مناه. ويقول أبو سالم العياشى المتوفى سنة ١٠٥١ للهجرة فى وداعه الرائع (١) لزوجته:

ولم أنسها يقظانة الهمّ فى الحشا ... مبلبلة الأشجان وسنانة الطّرف

تقول وقد حلّ الرحيل أهكذا ... تحمّلنى ثقل الفراق على ضعفى

أتترك أفراخا كزغب القطا وما ... رحمت بنيك إذ سلوت عن الإلف (٢)

فقلت لها كفّى الملام فأعرضت ... كخشف النّقا تستعرض الدمع بالكف (٣)

فودّعتها والقلب منطبق على ... أساه ودمعى لا يملّ من الوكف (٤)

عليك سلام لا زيارة بيننا ... مع البعد إلا أن أزور مع الطّيف

وهو يقول إنه ودعها صباحا وأشجانها تملأ صدرها، ولا تزال سنة من النوم عالقة بطرفها، وتقول له وقد أزف الرحيل: أتتركنى أتحمّل أثقال الفراق على ضعفى. أتترك أبناء صغارا كأولاد القطا لم يطل ريشهم، فهلا رحمتهم حين سلوتنى ولم ترحل؟ فقلت لها كفى عن الملام، وظلت تذرف الدمع. وودعها وقلبه يكتظ بالأسى والحزن، ودمعه يتقاطر ولا يكف، وسلّم عليها، وهو يقول فى نفسه لن أزورك مع البعد إلا أن أزورك فى الحلم مع الطيف. ويتكاثر الغزل فى العصر العلوى، ومن مختاره قول أبى عبد الله الشرقى المتوفى سنة ١١٧٠ للهجرة (٥):

من لى بها تختال فى حليها ... كروضة تختال فى زهرها

فبشرها أرحب من بشرها ... ونشرها أطيب من نشرها (٦)

وخدّها أبهج من وردها ... ونورها ألطف من نورها (٧)

وقدّها أرفع من غصنها ... ووجهها أبيض من فجرها

العيش والجنّة فى وصلها ... والموت والنيران فى هجرها

وهو محب لصاحبته أشد الحب، ونتراءى له فى حليها تختال كروضة فى زهرها، ويستمر فى المقارنة، فبشرها وتهلل وجهها أرحب من بشر الروضة وتهللها، وعطرها أطيب من عطرها وخدها يفوق وردها فيما يبعث فى نفس الناظر إليها من البهجة والسرور. ونورها يفوق زهر الروض لطفا وحسنا، وقدها نحيل ممشوق أرفع من غصن الروضة، ووجهها يفوق فى بياضه بياض فجرها، وما وصلها إلا الحياة والفردوس وما هجرها إلا الموت والجحيم.


(١) النبوغ المغربى ٣/ ٨٧.
(٢) زغب القطا: أولاده الصغار قبل أن يطول ريشهم.
(٣) خشف النقا: ظبية الرمل.
(٤) الوكف: تقاطر الدمع.
(٥) النبوغ المغربى ٣/ ٩٢.
(٦) نشرها: شذاها وعطرها.
(٧) النور بفتح النون: الزهر.

<<  <  ج: ص:  >  >>