للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولم تقع أعينهم على شئ من أرض أو سماء إلا سجلوه ووصفوه، يصفون الأنهار والبحار والسفن كما يصفون النجوم والشمس والقمر والسحب والأمطار والطير. وكما وصفوا السهول والوديان وصفوا الجبال والكثبان والأشجار والغابات. ونجد الوصف على كل لسان منذ عصر المرابطين، من مثل قول القاضى ابن زنباع فى وصف الربيع (١):

أبدت لنا الأيام زهرة طيبها ... وتسربلت بنضيرها وقشيبها

واهتزّ عطف الأرض بعد خشوعها ... وبدت بها النعماء بعد شحوبها

وتطلّعت فى عنفوان شبابها ... من بعد ما بلغت عتىّ مشيبها

وقفت عليها السّحب وقفة راحم ... فبكت لها بعيونها وقلوبها

فعجبت للأزهار كيف تضاحكت ... ببكائها وتباشرت بقطوبها

وتسربلت حللا تجرّ ذيولها ... من لدمها فيها وشقّ جيوبها (٢)

وهو يقول إن الأيام أبدت لنا أروع طيب لديها: طيب الربيع، ولبست أروع حللها وأجدّها، واهتزت جوانب الأرض خصبا بعد جدبها، وتراءت النعماء فتية بعد شحوبها، وتطلعت لمفاتنها فى عنفوان شبابها بعد أن كانت شابت وبلغت من شيخوخة الجدب عتيّا، فقد وقفت عليها السحب راحمة لها عاطفة وبكت لها بكاء حارّا، ويقول إنه عجب للأزهار تضحك وتبتهج لبكائها وعبوسها، وسرعان ما لبست حللا سابغة بما حدث لها من ضرب الأمطار لها وشق مداخلها. ولما جاء الموحدون بالقاضى عياض مغلولا من سبتة إلى مراكش ومر بواد يقال له «داى» سمع قمرية تسجع، فقال (٣):

أقمريّة الأدواح بالله طرّبى ... أخا شجن بالنّوح أو بغناء (٤)

فقد أرّقتنى من هديلك رنّة ... تهيّج من برحى ومن برحائى (٥)

لعلك مثلى يا حمام فإننى ... غريب بداى قد بليت بداء

فكم من فلاة بين داى وسبتة ... وخرق بعيد الخافقين قواء (٦)

يذكرنى سحّ المياه بأرضها ... دموعا أريقت يوم بنت ورائى

ويعجبنى فى سهلها وحزونها ... خمائل أشجار ترفّ رواء (٧)

لعل الذى كان التفرّق حكمه ... سيجمع منا الشمل بعد تناء

وهو يقول لقمرية الأشجار طربّى أخاهم وشجن بالنوح أو بالغناء فقد أسهرنى من غنائك رنّة هيجت من شدائدى، لعلك مثلى غريبة تنوحين على قرينك وأولادك، وكم من فلاة بين


(١) قلائد العقيان ص ٢٥٩.
(٢) لدم: ضرب.
(٣) المنتقى لأحمد بن القاضى ١/ ٥٤٧.
(٤) الأدواح جمع دوحة: الشجرة العظيمة.
(٥) برحى وبرحائى: شدائدى.
(٦) خرق: مفازة. قواء: مقفر.
(٧) ترف: ناضرة. رواء: منظرها جميل.

<<  <  ج: ص:  >  >>