للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عليها وعلى ما حولها من الكلأ والنبات فإذا هى أرض جرداء بل لقد أصبحت قفرا، وأبدلت بأهلها الناعمين وحوشا، ولا جفن إلا وهو ملئ بالقذى ولا عين إلا وهى من الحزن حمراء كالدم. ويبكى ما كان فيها من رياض وغير رياض منشدا:

رياض إذا أبصرتها ونشقتها ... فلا تذكرن نجدا ولا تذكرن شحرا (١)

فمن لى بواديها إذا فاح رنده ... ومن لى بمرعاها إذا أطلع المشرا (٢)

ومن لى بروضات يفوق ضياؤها ... على الشمس حسنا كلما ابتهجت زهرا

وهل نفحة تكفينى المسك فائحا ... وهل شربة تكفينى الشهد مستمرا (٣)

وهل وقفة بين الطّلول التى قضت ... صروف الليالى فى معالمها نذرا

هنالك إخوان الفؤاد وفتية ... هم للحشا خمر فما يطلب الخمرا

وننأى عجالا عنهم مثلما نأى ... أبو صبية عنهم إذا يمّم القبرا

بها هامت الأرواح من قبل خلقنا ... ومن بعد ما كنا وإذ نبلغ الحشرا

وهى رياض إذا أبصرتها ونعمت بشذاها الذكى لم تعد تذكر ديار نجد الحبيبة ولا ديار الشحر بجوار حضرموت، ومن لى بواديها إذا سطعت رائحة شجر الرند فيه، ومن لى بمراعيها حين تنبت نباتها الأخضر الجميل، ومن لى بروضات بهيجة الزهر بها وإن ضياءها ليفوق ضياء الشمس بهاء وحسنا، وهل نفحة منها كالمسك فائحا وهل شربة فيها كالشهد أستطيع أن أنعم بها؟ . لقد أصبحت طلولا، ويتمنى وقفة بطلولها حيث كان إخوان، حديثهم كأنه الخمر فى لذتها ونشوتها، ولقد بعدنا عنهم سريعا كأب فارق صبيته عجلا قاصدا قبره، ويقول إن أرواحهم بها هامت قبل خلقهم وبعده، وسيظلون يهيمون بها إلى يوم الحشر. ويفضى إلى حشود من الحكم يبدؤها بأن الدهر لا يبقى على أحد، وكم من عظيم كان يعتلى حصنا شامخا هوى به وكم من مليك أصابه بالأرزاء وقهره وأذلّه. وقديما دارت صروفه على دارا ملك الفرس وأذلّ بنى ساسان بعد عزّ لا يماثله عز، وجرّ ذيله على الغساسنة وملوك الحيرة وخلفاء بنى أمية وبنى العباس والمعتمد بن عباد المنفى إلى أغمات بمراكش، فهل يشك أحد فى صولات الدهر؟ . إنه دائما يصول حتى على المحبين إذ يحيل الوصل بينهما هجرا. ويقول:

فلا تركنن للدّهر إن نعيمه ... ظلال سحاب يمسح السّهل والوعرا

ملول فما باق على عهد خلّة ... ولا مستديم فيك يسرا ولا عسرا

ولا تأمنن أبناءه إن تحبّبوا ... إليك فمن يشبه أباه فقد برّا

متى ما ارتجوا رغباء منك تقرّبوا ... إليك وأبدوا خالص الودّ والبرّا (٤)


(١) الشحر: إقليم على المحيط بجانب عمان.
(٢) المشر: النبات الأخضر.
(٣) مستمرا: مريئا سائغا.
(٤) رغباء: أمنية.

<<  <  ج: ص:  >  >>