للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذا العلم لا تغشى غرائبه قلبى ... ولا شاقنى منه إلى المنهل العذب

ولا أنا ممن جاوز الدّرب ناهضا ... إليه، ولا أرضى مقامى من ربىّ

ولا كان حظى منه إلا حكاية ... على الناس أتلوها فحسبى إذن حسبى

ولا ترض بالحظّ الخسيس سفاهة ... فمثلك من قد حلّ فى المنزل الرّحب

تجافوا عن الدار التى أصبحوا بها ... على غربة واستوطنوا حضرة القرب

وإن كان لا ينجيك إلا ركوبها ... فماذا التجافى عن مجاورة الرّبّ

وهو يقول إن العلم الذى يلوكه لطلابه من الفقه وغير الفقه لا يتغلغل فى قلبه ولا يدفعه إلى منهل النسك العذب، ويقول إننى بعيد عن درب النساك وإنه لا يرضى مقامه من ربه وما العلم الذى يلقيه الشيوخ على الطلاب إلا روايات عن الأسلاف، فلا ترض بهذا العلم وحده واطلب العلم-أو بعبارة أدق-النسك الذى يحياه العباد النساك الذين انصرفوا عن الدار الأولى: الدنيا إلى حضرة القرب من الرب. ولعل فى هذه الأبيات ما يدل على أن حركة الزهد فى المغرب الأقصى كانت إرهاصا لما سيشيع فيه من الحركة الصوفية. وممن كان ينزع إلى الزهد فى عصر المرابطين القاضى عياض، وله يقول مبتهلا إلى ربه (١):

إليك بؤت بذنبى ... فاغفر خطاياى ربّى

وامنن علىّ بلطف ... تجبر به صدع قلبى

فقد ركبت ذنوبا ... سوّدت منهنّ كتبى

وجئت أطلب توبا ... إذ ضاق بالذنب رحبى

فاقبل بفضلك توبى ... واغفر برحماك ذنبى

وعافنى واعف عنّى ... فأنت يا ربّ حسبى

وهو يعترف لربه بأنه يرجع إليه مذنبا آملا فى أن يغفر له خطاياه، إنه غفار الذنوب، ويدعو أن يمنّ عليه بلطفه المعهود حتى يجبر به ما حدث فى قلبه من صدع، فقد ارتكب ذنوبا كثيرة، سوّدت كتبه التى سيتلقاها يوم القيامة. ويقول إنه جاء ضارعا إلى ربه يطلب منه أن يقبل توبته، ويغفر ذنبه برحماه، فهو أرحم الراحمين. ويسأله العافية والعفو عنه، فإنه ربه قابل التوب وغافر الذنب. ونمضى إلى عصر الموحدين، ونقرأ عند القاضى عمر الفاسى المار ذكره فى الغزلين (٢):

أيّها المغتر بالزمن ... فى هواه خالع الرّسن

حبّك الدنيا وزينتها ... فتنة عمّتك بالفتن

ظلت والحالة شاهدة ... عاكفا منها على وثن


(١) التعريف بالقاضى عياض ص ٩٧.
(٢) الوافى ١/ ١٧٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>