للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التى اعتنقها صوفية المغرب الأقصى، إذ شاعت فيه منذ القرن السابع الهجرى الطريقة السنية الصوفية المعروفة لأبى الحسن الشاذلى. ونحن نجد مقدمات هذا التصوف السنى القائم على محبة الله دون فناء فيها مع التوكل والثقة فيه المفرطين على ألسنة كثيرين من الشعراء. ولعل ذلك ما جعل ابن الزيات يتوسّع فى كتابه «التشوف لمعرفة أهل التصوف» فيسلك فيه صلحاء المغرب وزهاده من العلماء والفقهاء الورعين ناظما لهم بين من سماهم أهل التصوف. وكانت كثرة الوعظ فى المساجد لأيام الجمع وغير أيام الجمع من أهم العوامل-كما أسلفنا-فى ازدهار الزهد ونزعة التصوف السنى فى المغرب، ولذلك كثر فى كتب التراجم نعت كثيرين بأنهم صوفية ونضرب مثلا للوعاظ بابن الحجام محمد بن أحمد اللخمى المكناسى وفيه يقول ابن عبد الملك المراكشى: «كان فاضلا صالحا زاهدا ذا حظ من الأدب وقرض الشعر مال إلى طريقة الوعظ والتذكير فرأس فيه أهل عصره بحسن الصوت وغزارة الحفظ وإتقان الإيراد والصدق والإخلاص فى وصاياه وتذكيره، فنفع الله به خلقا كثيرا فى بلاد شتى. . وله كتاب حفيل فى الوعظ سماه حجة الحافظين ومحجة الواعظين فى مجلدين ضخمين، وله يصف نفسه ومحبته لربه التى تعد أس التصوف وجوهره (١):

غريب الوصف ذو علم غريب ... عليل القلب من حبّ الحبيب

إذا ما الليل أظلم قام يبكى ... ويشكو ما يكنّ من الوجيب

يقطّع ليله فكرا وذكرا ... وينطق فيه بالعجب العجيب

به من حبّ سيّده غرام ... يجلّ عن التطبّب والطبيب

ومن يك هكذا عبدا محبّا ... يطيب ترابه من غير طيب (٢)

وهو يقول إن وصفه وعلمه فى حبه لربه غريب، ويشكو فى حبه من علة قلبه كما يشكو المحبون، ويقول إنه يظل طوال الليل قائما يبكى ويشكو من شدة حبه ولهيبه، وإنه لا يزال طوال ليله يفكر ويذكر ربه، ويقول إن غرامه بربه لا ينفع فيه تطبب ولا طبيب، كما يقول إن من يحب ربه هذا الحب المفرط يطيب مكانه فى حياته وفى قبره من غير طيب. ووعظ بإشبيلية فى الأندلس، ويذكر بعض مستمعيه هناك أنه كان من استحكام تأثيره فى الناس وانفعال القلوب لتذكيره بمقام تكلّ العبارة عن وصفه، ويقول: شاهدته فى إشبيلية، وقد ندب الناس إلى افتكاك أسارى لدى النصارى، فتسارع الناس إلى بذل ما حضرهم، وخلع كثيرون بعض ما كان عليهم من الثياب، فعهدى بها قد تراكمت أمام منبره حتى كادت تحجبه عن الأبصار، سوى ما وعد به من الحاضرين، وتجمّع من أثمان تلك الثياب مال جسيم.


(١) الذيل والتكملة ٨/ ١/٢٦٧ وما بعدها.
(٢) لاحظ ابن عبد الملك أن فعل الشرط فى البيت «يك» مجزوما وجوابه «يطيب» مرفوعا ولو قال، «تطب أثوابه» أو ما هو على وزنه لتفادى هذا الخطأ.

<<  <  ج: ص:  >  >>