للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويعقوب المنصور الموحدى المتوفى سنة ٥٩٥ للهجرة هو الذى جلبه إلى أهل حاضرته مراكش ليستمعوا إلى وعظه، وظل هو وخلفاؤه يوالونه بعطاياهم الجزيلة، ولم يكن يدخر منها شيئا إذ كان ينفقها على الفقراء والمحتاجين وفى تجهيز الفقيرات إلى أزواجهن حتى وفاته بمراكش سنة ٦١٤ للهجرة. وإنما استطردت فى الحديث عنه لأوضح سيرة واعظ زاهد بل صوفى مبكر من صوفية المغرب الأقصى ومدى إخلاصه فى وعظه وزهده وتصوفه. وكان الوعاظ من حوله كثيرين فى كل بلد مغربى. ونلتقى فى أواخر عصر الموحدين بصوفى كبير هو ابن المحلى وسنخصه بترجمة مفردة. ومر بنا فى الزهد حديث عن عبد الحق بن إسماعيل فى العصر المرينى وكتابه-المارّ ذكره-عن صلحاء الريف الشمالى وترجمته فيه لستة وأربعين من صلحائهم ويصفهم بأنهم أولياء وكأنه يعدهم جميعا من المتصوفة، وعادة يتبع الترجمة بأبيات من إنشائه وقد استشهدنا فى الزهد بمثال منها، وكثرتها تعمها الروح الصوفية على نحو ما يبدو من المقطوعات التى اقتبسها منه الأستاذ محمد بن تاويت فى كتابه الوافى (١)، من ذلك قوله من قصيدة فى ترجمة أبى القاسم بن الصيان الفاسى:

الأنس بالله العظيم وذكره ... مما يزيد أولى التّقى إيمانا

من كان نور الحق أيّده غدا ... ولهان من شغف به هيمانا

سرّ الحقيقة لا يفوز بنيله ... غير امرئ مستنزل كتمانا

لا يحرز الفضل المبين سوى الذى ... ملك العلوم مطهّرا جثمانا

وهو يقول إن الأنس بالله والخلوة به وتسبيحه وذكره مما يزيد المتقين إيمانا بربهم، ويصف الصوفى الذى يؤيده نور الحق جلّ جلاله فإنه يصبح به شغوقا ولهان هائما، غير أن ذلك إنما يفوز به وبسر الحقيقة فيه من يكتمه مخافة أن يعلن حبه لربه للناس، وما شأنهم؟ فيضيع منه ما حباه به. ويقول إنه لا يحرز هذا الفضل الصوفى إلا العالم الطاهر النقى الورع. وينعت المتصوفة ويعرّف بهم فى قوله بترجمة محمد اليستثنى البطيوى:

علم اليقين أنالهم ما أمّلوا ... فدروا به عين اليقين وحقّه

سلبوا فغابوا عن وجود نفوسهم ... فوجودهم محو يلازم محقه

لم يعرفوا هجرا ولا وصلا ولا ... معنى يبيّن قربه أو سحقه

وكأنما أسرارهم بقلوبهم ... درّ مصون لا يفارق حقّه

ويقول إن الصوفية هم الصفوة التى منحها الله علم اليقين، فعرفته حق المعرفة، ويذكر أنهم سلبوا الشعور بالمحسوسات من حولهم، فغابوا حتى عن الشعور بوجودهم، وكأنما


(١) انظر فى أشعار عبد الحق بكتابه صلحاء الريف كتاب الوافى بالأدب العربى فى المغرب الأقصى ٢/ ٥٠٥ - ٥١٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>