وجودهم انمحى انمحاء تاما، فلم يعودوا يشعرون بشئ سوى ربهم الذى استغرقهم وفنوا فى جلاله، وهم بذلك محبون حبّا من نوع خاص حبا إلهيا، لا هجر فيه ولا وصل ولا شئ سوى النعيم بالفناء فى الذات العلية، وهم لا يذيعون أسرار هذا الفناء ولا ذلك الحب إذ يكتمونها فى حقاق صدورهم وقلوبهم. ويصفهم مرة أخرى فى ترجمة إبراهيم بن صالح من وجوه المزمة منشدا:
أهل الحقيقة إن نظرت وجدتهم ... متسربلين بكلّ فضل باهر
قهروا نفوسهم ففازوا بالمنى ... من جود ربّ ذى جلال قاهر
وتجوهروا بلطائف فتكلّلت ... تيجانهم بزبرجد وجواهر
فهم أهل الحقيقة الربانية إن تأملتهم وعرفتهم حق المعرفة وجدتهم مزدانين بحلل من كل فضل باهر، وقد استطاعوا أن يقهروا نفوسهم ويردعوها عن كل متاع دنيوى ففازوا بأمانيهم من عطايا رب جواد ذى جلال وإكرام لا حد له، وكأنما بثّ فيهم ما جعلهم يستحيلون جواهر متألّقة، بل كأنما نظم على تيجانهم الصوفية الإلهية روائع الزبرجد والدرر النفيسة. وينعت أحدهم بحسن توكله على ربه، وهو مبدأ أساسى فى التصوف قائلا:
حسن التوكّل فى القفار أناله ... حالا بها قد سرّه ما ناله
جعل الاله له سبيلا فى الفلا ... سببا فحقّق فى الخلاص مناله
فهو قد أحسن التوكل على ربه، فرزقه فى القفر بما سدّ رمقه وسرّه فى حياته الإلهية، وحقق له الخلاص من الدنيا وترهاتها. ويدور الزمن دورات ونلتقى بابن جابر محمد بن يحيى المتوفى سنة ٨٢٧ للهجرة وكان له نزوع نحو الزهد والتصوف، ومن قوله (١):
نظرت إلى الوجود بعين قلبى ... فلم أر فيه غير الله وحده
فثق بالله وارج الله واعمل ... للقيا الله تأمن كلّ شدّه
وقد يظن من البيت الأول أنه ممن يؤمنون بالحلول وأن الذات الإلهية تحلّ فى كل مظاهر الوجود، لذلك لا يرى فيه سواه، ويطلب إلى مخاطبه أن يكون دائما واثقا فى الله لا يرجو ولا يأمل فى أحد سواه، ويعمل لآخرته حتى يأمن عذابه ويدخل جناته، وله فى التوكل على الله حق التوكل:
على قدر نيّة أهل التوكّ ... ل يعطيهم الله منه المعونه
فإن صحّح العبد إيقانه ... كفاه المهيمن همّ المئونه
وهو يقول: بمقدار توكل العبد على ربه يمنحه العون والرعاية، وإن صحح يقينه وأخلص
(١) انظر فى هذه المقطوعة وتاليتها كتاب المنتقى لابن القاضى ١/ ٤٠٥.