للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا يحلّ وثيق مبرمه، ولا يحلّ نسخ محكمه، فامتثلت امتثال من لم يجد فى نفسه حرجا من قضائك، ورجوت حسن تجاوزك وإغضائك، أبقاك الله قطبا لفلك المكارم والمآثر، وفصّا لخاتم المحامد والمفاخر».

وهو يشيد ببيان ابن الخطيب فى رسالته، ومعروف أنه أحد بلغاء الأندلس بل العرب قاطبة، وأبو جعفر يحكم اختيار ألفاظه وسجعاته، ويضيف إلى ذلك تشبيهات واستعارات بارعة، من ذلك تشبيهه فى جذبه له لمساجلته بمن يحاول أن يجرى فرسا ظالعا أعرج مع فرس ضليع قوى متين أو بمن يحاول مقابلة الشمس المنيرة عند طلوعها بسراج لا يكاد ضوءه فى نورها يبين، وسكن محسّا كأنه مهيض الجناح، بل لقد جمع نفسه وقرر الفرار من المساجلة فرار الأعزل من حامل السلاح وشاهره، ويخال نفسه إن أدلى دلو قريحته عازما على المساجلة كان كمن يكلف الأيام أن ترد أمسها عليه، بل كمن يطلب من شخص لمس السماء بيديه. ثم يعود إلى نفسه فيرى أن ليس من حقه أن ينقض أمرا لابن الخطيب أو ينسخ حكما له، فامتثل راجيا منه تجاوزه وإغضاءه عن ضعفه فى البيان، ويدعو الله أن يبقى ابن الخطيب قطبا للمحامد والمآثر وفصّا نفيسا لخاتم المكارم والمفاخر. وكان ابن الخطيب فى عصره يعدّ زعيم الأدب والأدباء، وأهدى إليه أبو القاسم الشريف الحسنى ديوانا له سماه جهد المقل، ومعه الرسالة التالية (١):

«الحمد لله الكبير المتعال المسئول أن يعصمنا من خطل القول وزلل الأعمال، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأرسال. هذه أوراق ضمّنتها جملة من بنات فكرى، وقطعا مما يجيش به بعض الأحيان صدرى، ولو حزمت لأضربت عن كتبها كلّ الإضراب، ولزمت فى دفنها وإخفائها دين الأعراب، ولكنى آثرت على المحو الإثبات، وتمثّلت بقولهم: «إن أحسن ما أوتيته العرب الأبيات. وإذا هى عرضت على ذلك المجد، وسألها كيف نجت من الوأد، فقد آويتها من حرمكم إلى ظل ظليل، وأحللتها من فنائكم إلى معرّس ومقيل (٢)، وأهديتها علما بأن كرمكم بالإغضاء عن عيوبها كفيل، فاغتنم قليل الهدية منى إن جهد المقلّ غير قليل، فحسبها شرفا أن تبوّأت فى جنابك كنفا ودارا، وكفاها فخرا ومجدا أن عقدت بينها وبين فكرك عقدا وجوارا».

وهو يقول إن أوراق الديوان تضمنت طائفة من بنات فكره، ولو أخذ نفسه بالحزم لامتنع عن كتابتها كل الامتناع، بل لمحاها محوا، غير أنه عاد فآثر على المحو الإثبات وتمثل بقولهم إن أحسن ما أوتيته العرب أبيات يقدمها الشاعر بين يديه. ثم يذكر أنها إن عرضت


(١) النبوغ المغربى ٢/ ١٧٦.
(٢) معرس: مبيت. مقيل: مكان فى القيلولة بنصف النهار.

<<  <  ج: ص:  >  >>