للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عصره بالساسانيين الذين كانوا يحترفون الكدية أو الشحاذة الأدبية فى الحصول على أموال الناس بفصاحتهم وحيلهم فى أسلوب قصصى يشيع فيه الحوار، واتخذ بديع الزمان لمقاماته أديبا متسولا كبيرا، هو أبو الفتح الإسكندرى وراوية يروى أقاصيصه وحيله يسمى عيسى بن هشام، وشاعت مقاماته فى العالم العربى. وأوفى بهذا الفن على الغاية الحريرى التى تداولت مقاماته المغرب والبلدان العربية. وكان كثير من العلماء والأدباء يعقدون لإملائها وشرحها للطلاب مجالس متعاقبة، وحاولت كل بلدة أن تدلى بدلوها فى هذا الفن، غير أن كثيرين من البلدان العربية رأوا أن يعدلوا بها عن صورتها الأصلية إلى موضوعات أدبية فيها قصص وحوار. وأول ما يلقانا من ذلك فى المغرب الأقصى مقامة لعبد المهيمن الحضرمى الوزير وصاحب القلم الأعلى فى عهد أبى سعيد المرينى ثم فى عهد ابنه أبى الحسن المتوفى سنة ٧٤٩ هـ‍/١٣٤٩ م، وقد سماها «مقامة الافتخار بين العشر الجوار» وهن بيضاء وسمراء، وطويلة وقصيرة، وسمينة ونحيفة، وعربية بدوية وحضرية، وعجوز وصبية. وكل واحدة منهن تناظر نقيضتها فى حسنها. وقد لقيهن-كما يقول فى مفتتح مقامته بوادى الجوهر فى إحدى المدن، وأجرى على ألسنتهن هذه المناظرة الطريفة. وكانت أول جارية تكلمت وطلبت المناظرة جارية يفوق ضياء وجهها ضياء الشمس فقد وقفت بين الصفوف وتقدمت وقالت (١):

«الحمد لله الذى جعل البياض طراز كلّ جمال، وشرّف أهله بالحياء والكمال، وأعطاهم عزّة لا تبيد، وصيّر السّمر لهم عبيد، ألا وإن على قلبى جمرة، من معاتبتك يا ذات السّمرة، أعندك يا سمراء ما عندى، وليس قدّك كقدّى، ولا خدّك كخدّى، جبينى ذو ابتهاج، وذوائبى (٢) كقطع الزّاج (٣)، ورشح عرقى كمسك أذفر، يرشح من تحت البرد والمغفر، وثغرى أقحوان (٤)، وديباج وجهى أرجوان (٥)، وإن أسبلت (٦) شعرى المضفور، فظلام ليل على بياض كافور، ثم أنشدت:

قل للذى أزرى بأهل البياض ... ما أنت إلا باطل الاعتراض

فورد خدّى أبدا زاهر ... فى كل فصل فوق خدّى رياض

يا حاسدى مت كمدا إنما ... تجنى المنى من الخدود الغضاض (٧)

وتقدّمت السمراء، وحطت اللثام، عن وجه شهىّ الالتثام (٨)، وأبلغت فى السلام، وأفصحت فى الكلام، وقالت:


(١) النبوغ المغربى ٢/ ١٩٥ والوافى ٢/ ٤٤٩.
(٢) ذوائبى: ضفائرى.
(٣) الزاج: عقار أسود يصنع منه المداد.
(٤) يشبه الشعراء الثغر بالأقحوان، وكأن تلك الزهرة تشبهه.
(٥) أرجوان: شجر له زهر شديد الحمرة.
(٦) أسبلت: أسدلت.
(٧) الغضاض: الناضرة.
(٨) لالتثام: يريد القبل.

<<  <  ج: ص:  >  >>