للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والظنون الكاذبة والذهول عن يوم القيامة مع ما فى ذلك من كفران بنعمة الله ونعمه لا تحصى. وتتخلل العظة أو الخطبة الآيات القرآنية مؤكدة معانى عظته. ولغة العظة لغة جزلة مصقولة تشيع فيها مع الآيات ألفاظ قرآنية كثيرة. ويأسى من يقرأ هذه الخطبة وأختها الموجودتين فى كتاب التعريف بالقاضى عياض لضياع كتاب خطبه. والخطبة مسجوعة وكان يؤثر السجع فى خطبه وأيضا فى رسائله على نحو ما نرى فيما أثبته وسجّله منها ابنه محمد، من ذلك رسالة يعاتب فيها صديقين له:

«ليت شعرى أأعتب أم أعتب، وأعترف بالذنب أم أذنب، لا جرم لو علمت لنفسى جرما لجعلت عليها برد الشراب حراما، ولسلبتها لذيذ المنام غراما (١)، حتى يفئ إليها من وجد عليها (٢)، ويرضى عنها المتظلّم منها، بعلائكما ما هذا الجفاء؟ وأين ما تدّعيانه من الوفاء؟ أحين جدّت بنا الحال وشدّت للنّوى الرّحال، ودعا بنا داعى الزّماع، ومجلت (٣) عين ويد للوداع، اتخذتمانى ظهريّا، وصرت عندكما نسيا منسيّا، لا أعلم لكما علما، ولا ألقاكم إلا حلما، كأن شملنا لم يزل متصدّعا، وكأنا لطول افتراق لم نبت ليلة معا، ماذا يريب الغريب فى إغباب (٤) الأحباب أمجالسة السلطان أو مؤانسة الأوطان، أبى المجد من ذلك وأبيت، ولنا يا بيت بالعلياء بيت، أم صدود وملال ينافيه ذلك الجلال، أم قلة احتمال، لما تشاهدانه من غلظ تلك الخلال، وقيتما! من الذى يعطى الكمال؟ أم ثمّ ذنب يوجب الصدود، ويودى بودّ الودود، أسمعاه، لأرجع إلى المتاب، عن العتاب، وأبادر بنفسى عوض الكتاب، فأعذر ولا أعذل (٥) وأنصف من نفسى وأعدل والسلام».

ونسيج الرسالة نسيج جيد من الألفاظ والأسجاع مع ما يزينها من الجناسات والاستعارات والكنايات، مما يدل-بوضوح-على أن القاضى عياضا كان يحبّر أعماله الأدبية من رسائل وغير رسائل. والرسالة تحمل بجانب ذلك حسّا مرهفا، لا بما يورد فيها من سجع قصير يطير عن الأفواه بخفة، بل بما يصور من حسه الدقيق، بمثل تعقيبه على ما يظن صاحباه به من غلظ الخلال بقوله وقيتما، ويستمر هذا الحس الدقيق فى بناء الكلم ببقية الرسالة، وبدون ريب كان القاضى عياض أديبا كبيرا. ومن طريف ما نقرأ له فى مقدمة كتاب الشفاء تحميده لربه وتمجيده لرسوله إذ يقول:

«الحمد لله المنفرد باسمه الأسمى، المختص بالملك الأعز الأحمى (٦)، الذى ليس دونه منتهى


(١) غراما: عذابا وفى الأصل: عزما.
(٢) وجد عليها: غضب منها.
(٣) الزماع: المضىّ فى الأمر. مجلت: كلّت كناية عن الشيخوخة وفى الأصل: خجلت.
(٤) الإغباب: البعد فى الزيارة.
(٥) أعذل: ألوم.
(٦) الأحمى: الأمنع.

<<  <  ج: ص:  >  >>