للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بعد مقربة من ثمانين مرحلة فى المفاوز الصعبة المجاز إلى بلاد السودان، والأنحاء التى جنا (١) طاعتها لهذه الإيالة-إن شاء الله-دان، فتناهضت أجناسهم للدفاع، بحكم التأليف والاجتماع، بما ينيف (٢) على أربعين ألف مقاتل ما بين حشود الأعراب وأخلاط الأتباع، وجيوش السودان، فانتفخ هرّهم ليصول، وانتفض بومهم يشير للعقبان بالنزول، فما كان إلا اجتماع الفريقين، وتدافع الجانبين. والغرض أن أنصار هذه المثابة وحماتها قد مسّهم النّصب بأوجه التأثير، وأفنى جلّ خيلهم مواصلة المسير، حتى إنهم لم يتوفر من أعدادهم حين الالتحام، مع الأشقياء أبناء حام، سوى سبعمائة رام، وقرب عشرين فارسا، وكان كلهم بالمكافحة والمنازلة ممارسا، فهبّ عليهم من رياح النصر كل صبا، واتخذوا الشهامة والجلاد سبيلا ومذهبا، فخفقت الألوية العلويّة بالنّصر والظّفر، وانبتّ (٣) -بحمد الله-سلك انتظامهم وانتثر، وأتى الحين والأسر على جموعهم فى الحين {فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}.

وإنما ذكرنا هذه الرسالة يتمامها لندل على أسلوب محمد بن على الفشتالى المسجع، وأنه كان يمتلك ناصية اللغة بما يؤلف من الألفاظ المصقولة الرصينة، كما كان يعنى أحيانا بالجناس والاستعارات الملائمة كاستعارة العقبان لجنود جيشه، وعبر عن سلوكهم الصحراء الجنوبية بأنهم «فتحوا بابا طالما طلسم رتاجه، فاقتحم العسكر أحياء وحللا، وارتدى من المهابة وبعد الصيّت برودا وحللا». ويقول عن أهل السودان الغربى فى محاولتهم منازلة جند المنصور: «انتفخ هرّهم وانتفض بومهم يشير للعقبان (جنود المنصور) بالنزول». ولعل فى هذه الاستعارات وما يماثلها فى الرسالة ما يدل على أن الفشتالى كان يمتلك ذهنا خصبا. ومن رسائله رسالة بلسان المنصور يعزى فيها رئيس وزراء الدولة العثمانية سنان باشا فى وفاة السلطان مراد خان، وهى تستهل على هذه الصورة:

«الوزارة العظمى التى تجال بأنظارها المسدّدة قداح التدابير الجلائل، والمنزلة التى لها وفور الاختصاص من أثرة (٤) الإيالة العثمانية بأوضح الدلائل، والمكانة التى ضعضعت عروش عظماء المشركين وطأطأت رءوس رؤساء الكفار، والقطب الذى عليه فى دولة بنى عثمان أعظم المدار، الوزير الأجلّ، الأعظم، الأفخم، الكبير، الخطير، الأشمخ، الأرسخ، الأطول، الأكمل، المعتبر، المشتهر، الحظىّ، السّرىّ (٥)، الأقرب، الأنجب، الأثير، الشهير، الأخصّ، الأخلص، الأسعد، الأصعد، الأرقى، الأنقى، الأظهر، الأطهر، المثيل، الحفيل (٦)، سنان باشا أبقى الله حوزته (٧) محروسة، وربوعه بالمسرات مأنوسة. . . هذا


(١) جنا: ثمر.
(٢) ينيف: يزيد.
(٣) انبتّ: انقطع.
(٤) أثرة: خلصاء.
(٥) السرى: الشريف.
(٦) المثيل: الفاضل. الحفيل: المحتفى به.
(٧) حوزته: دياره.

<<  <  ج: ص:  >  >>