للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فما عثرت بعد معاناة البين، ومعاتبة الدهر المفرّق بين المحبّين، إلا على بعض درر من كلامك، استخرجت من بحور مددك بمداد أقلامك، كنت ادّخرتها عن القوم، لمثل هذا اليوم:

تفقّدتها بعد السرور بكونها ... وفى الليلة الظلماء يفتقد البدر

فما زالت تذكّرنى أيام الوصال، وتقطع من غرائب البين وتخرسه إن صاح أوصال:

ذكرت بها بعد التفرّق ما مضى ... زمان النّقا والشئ بالشئ يذكر

إلى أن استولت على يد الضيّاع، وأعقبت لى ذلك الأمن بالارتياع، فأصبحت من فراقك ملتاعا بلوعتين، واحترقت بجمرتين، والتدغت من جحر مرتين:

وكنت كذى رجلين رجل مريضة ... ورجل رماها الدهر يوما فشلّت

غير أن الآمال كانت تشوّفنى (١)، والليالى لكتابك تشوّقنى، فكنت أصدّق فيك الأوهام، وأعدّ حديثها من الإلهام:

صدّقت وهمى فى الحديث ولم أقل ... خبر رواه الوهم وهو ضعيف»

وهو فى مطلع رسالته يقتبس من سورة يونس: (الحسنى وزيادة) كما يقتبس من سورة القيامة: {إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَقِيلَ: مَنْ راقٍ}، ويتأثر بالحديث النبوى: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» ويتمثل بأبيات تتضح فيها رهافة ذوقه وبصره بالشعر العربى ودقة اختياره، ولغة الرسالة وأساليبها تكتظ بالسلاسة والعذوبة، مع ما يشيع فيها من الجناسات والطباقات والاستعارات. وكل ذلك يرفع من نثره وبلاغته فيه. ومن آثاره النثرية مقامة بديعة سماها «مقامة الحجام» رواها عن بعض الظرفاء وأنا أوجزها فى السطور التالية:

استهلّها بأنه جلس يوما مع جماعة من الأحباب. . يتذاكرون ما مرّ فى أيام الشباب، وكان بينهم شاب حسن الصورة إلا أنّ شعر شاربه طال، واسترسل غاية الاسترسال، فسألوه عن سبب طول شاربه، فقال لهم: أنا أخبركم بخبر عجيب، فقد صلّيت يوما صلاة الاستخارة، فوجدتنى مائلا إلى التجارة، فقصدت مدينة سنجار، وفتحت بها حانوتا بسوق التجار، لبيع القماش، والاستعانة به على المعاش، وزيّنت الدكان، وكسوته الستائر على أربعة أركان. فحاول يوما دخول الحمام، فوجد فى طريقه جماعة من النسوة بينهن فتاة جميلة، فتبعتها حتى دخلت دارا أنيقة، ورأى أمام الدار خياطا يخيط الثياب فى دكان. ويذكر الشاب أنه احتال على عقد صلة بينه وبين الخياط، ونجح فى عقدها، فأنبأه أن أباها خطيب البلد، وهو كثير المال وليس له من أولاد سواها وخطبها كثيرون، وردّهم ولم يسمح لها بالزواج، وتلطف


(١) تشوّفنى: تجعلنى أتطلع وأطمح.

<<  <  ج: ص:  >  >>