للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

له الشاب حتى أنس به، فدلّه على عجوز مشهورة فى تزويج الفتيات، ولقيته العجوز، فوعدها بمال وتحف كثيرة إن هى نجحت فى وساطتها. وغابت عنه فترة وعادت إليه بعد شهر، فأيأسته منها، فقال لها إنّي لا أريد منها سوى قبلتين، وأعطاها من الذهب ما أرضاها، فعادت إلى الوساطة عند أم الفتاة، وأقنعتها بلقاء الشاب المتيم لابنتها، واتفقا على أن يزورها فى صلاة إحدى الجمع وأبوها مشغول عنها فى المسجد. وفى يوم الجمعة المضروب دخل عند حجّام ليستتم حسن مظهره، فوجد الحجام شاربه طويلا فقصّ أطرافه، وبدلا من أن يعطى الشاب الحجام درهما أعطاه لارتباكه دينارا، فطار صوابه، وخرج وراءه، ولازمه ولاصقه طامعا فى دنانيره حتى إذا دخل دار الفتاة ولول الحجّام وصاح ولم يزل يصرخ ويستغيث، ويقول ألا منجد ألا منجد ألا مغيث والعجوز راجفة والبنت واجفة (١) ومثلها الأم، واجتمع الناس والحجام يصيح: يا سيداه، يا مولاه، وخرج الناس من صلاة الجمعة وتجمع الناس عند الدار، ووصل الخبر إلى خطيب البلد فحضر، وسأل الحجام ما الخبر؟ فقال له إن سيدى دخل إلى هذه الدار ومعه كيس فيه ألف دينار فطمعوا فيه فأدخلوه وقتلوه. ووجد الشاب فى الدار بئرا فرمى نفسه فيها ليختبئ عن عيون الناس، ودخل الخطيب الدار ومعه الحجام يبحثان عن الشاب، وعرف الحجام مخبأه فى البئر، فسأل الخطيب أبو الفتاة الشاب عن سبب دخوله الدار، فأجابه مموّها عليه: دخلت لكى أسرق، فحمل إلى الوالى على أقبح حال وأسوأ شان، وأمر بسجنه، وبقى فى الحبس سنة. وكان المساجين يعرضون كل عام على السلطان فى شهر رمضان لينظر فى أمرهم، وعرض عليه الشاب فسأله عن الأمر الذى حبس من أجله، فقال له، إنها قضية أذكرها بين يديك لتحكم فيها، وذكر له حكايته على وجهها الصحيح، فأمر برد ماله كما أمر الخطيب أن يزوجه من ابنته، ودفع له الصداق. وسلم الحجام للشاب فصلبه على باب داره. ثم قال: وأنا من هذا الحين لا أقص شاربى أبدا.

وقارن الأستاذ محمد بن تاويت بين عناصر هذه المقامة لابن الطيب العلمى وبعض عناصر المقامة السنجارية للحريرى، ولاحظ كثيرا من التشابه بين عناصر المقامتين حتى فى بعض العبارات والصيغ، ونجد ابن الطيب العلمى يذكر عن بطلها أنه قصد مدينة سنجار بقصد التجارة، وهى المدينة التى عقد عليها الحريرى مقامته السنجارية. ومقامة العلمى لا تدور على الشحاذة الأدبية مثل مقامة الحريرى. وقد أخلاها-كما ذكر الأستاذ ابن تاويت-من الألفاظ الغربية الكثيرة التى استظهرها الحريرى فى مقامته، وأجرى فيها روح الفكاهة مع السلاسة والعذوبة على نحو ما يبدو فى القطعة التالية المقتطفة من أوائلها:


(١) واجفة: مضطربة.

<<  <  ج: ص:  >  >>