للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«اتفق لى فى بعض الأيام ضرورة إلى دخول الحمام، فوجدت فى طريقى جماعة من النسوان، بينهن فتاة كأنها قضيب البان، فلمحت من تحت الإزار معصمها وقد سطع صفاؤه، وأبصرت من تحت النقاب جسمها وقد لمع ضياؤه، فوقفت وقد جرى من الجفون الدم، وعجزت عن نقل القدم، ثم تبعتها من بعيد، ولاحظتها إلى أين تريد، فدخلت دارا يدل إتقان بابها، على سعادة أربابها، ونظرت فإذا بالقرب من ذلك المكان، خيّاط يخيط فى دكان، وعنده من الصناع والأعوان، ذوو أذقان ومردان (١)، صنوان (٢) وغير صنوان، فقلت فى نفسى: من هذا الخياط أستفهم، عمّا علىّ أبهم. فرجعت إلى دكانى، ثانيا عنانى، وأحضرت عدّة من التفاصيل، وجئت بها إلى حانوت الخياط بقصد التفصيل، فجالسته وحاورته وآنسته، وفصلت ذلك القماش، وعجّلت له من الأجرة ما يحصل به الانتعاش، ففرح بحضورى، واعتنى بأمورى، ووجدت عنده معرفة بالأدب، وشكا إلىّ من ضيق الحال والسّغب (٣)، وأنشدنى لنفسه من شعره المستعذب:

أنا الخيّاط لى رزق ولكن ... أرى حالى من الإفلاس عبره

ذراعى فيه من فقرى مقصّ ... ورزقى خارج من عين إبره

فاستحسنت نظمه، وحملت همّه وسألته عن صنّاع دكانه، وديار جيرانه، فما زال يشير إلى كل دار ويشرح حالها، ويعرّفنى تفصيلها وإجمالها، حتى أفضى الحديث إلى الدار التى أختارها، وقصدى أن تتضح لى أخبارها، فقال: هى دار خطيب البلد، وهو رجل كثير المال قليل الولد، مشهور بالتّوقرة الزائدة، ولا له من الأولاد إلا ابنة واحدة، وهى روحه التى بين جنبيه، والسواد الذى فيه نور عينيه، وقد منعها الأزواج ولم يسمح لها بالزواج».

والمقامة تجرى بهذه الروح الفكهة التى ترسم الابتسامة على الشفاه، وهى سجع خالص، سجع قصير يحدث ضروبا من التلاؤم الصوتى بين العبارات ويحسّن جرسها ووقعها فى الأسماع، حتى لتنساب انسياب الجدول الرقراق المتدفق بالماء العذب القراح.


(١) مردان: جمع أمرد: شاب.
(٢) صنوان: شقيقان أو متماثلان.
(٣) السغب: الجوع.

<<  <  ج: ص:  >  >>