«تاريخ السودان القديم والحديث». من أن المهدى جعل أتباعه مراتب بحسب تاريخ دخولهم فى دعوته الدينية واعتناقهم لها، فالمرتبة الأولى لأنصاره الذين التفوا حوله قبل إعلانه المهدية، وهم أبكاره، والمرتبة الثانية لأنصاره الذين آزروه فى جزيرة أبا فى النيل الأبيض، والمرتبة الثالثة لأنصاره الذين هاجروا إليه وهو فى جبل قدير بتقلى، والمرتبة الرابعة لأنصاره الذين هاجروا إليه فى الأبيض، ثم باقى الأنصار وهم أيضا طبقات بحسب أسبقيتهم فى اعتناق دعوته.
والمبدأ الثالث فى دعوة المهدى هو الأخذ بالبساطة فى الحياة ومطاعمها ومشاربها ونبذ ما أدخله التيار التركى والأوربى فى الحياة المادية الحضارية لأهل السودان فى العادات والمأكل والمشرب والملبس والأفراح والمآتم. وهذا المبدأ يتفق فى وضوح مع مبدأ الزهد والتقشف إزاء المتاع الدنيوى، وقد أراد به أن يحمى البلاد من ترف الحضارات الأجنبية.
والمبدأ الرابع فى دعوة المهدى نبذ أتباعه لجميع الطرق الصوفية المنتشرة فى السودان، وبذلك حلّ كل الطرق الصوفية ببلاده ولم يعد لها شيوخ ولا أتباع ينتمون إليها، ولا عاد بينها تنافس مقيت، كل يزعم أن طريقته هى طريقة الهدى السديدة وأن الطريقة أو الطرق الأخرى ضالة انحرفت عن طريق الرشاد القويم، وبذلك لم تعد فى السودان طريقة ولا دعوة دينية إلا دعوة المهدى وما وضعه لها من مبادئ.
ومبدأ خامس فى دعوة المهدى هو نبذ كتب النحل الدينية وكتب فقهاء المذاهب الأربعة المشهورين لأبى حنيفة ومالك والشافعى وابن حنبل وما بها من كثرة المسائل الفرعية، مما لا يفيد فوائد مباشرة فى فهم أركان العقيدة الإسلامية، وقد استحالت هذه الكتب على مر الزمن إلى مجلدات تلو مجلدات وشروح تلو شروح يغرق المسلم فى لججها وخضمها الزاخر، ولا يكاد يتبين نور الدين، إذ حجبوا عنه الكتاب والسنة، وزجوا به فى هذا المحيط الواسع من كتب تعد بالآلاف تتناول مسائل متفرعة لا حدّ لها ولا حصر، ويقول من الواجب إهمالها ووضع مذهب اجتهادى جديد فى الفقه والعقيدة. ويشعر من يطلع على هذا المبدأ فى دعوة المهدى أنه ربما كان متأثرا فيه بدعوة المهدى ابن تومرت مؤسس دولة الموحدين فى المغرب والأندلس إلى نبذ كتب المذاهب الفقهية الأربعة الكبرى لما بها من كثرة الفروع والعلل، ولم يلبث خليفتاه يوسف بن عبد المؤمن وابنه يعقوب أن أحرقا أحمالا من هذه الكتب.
ومبدأ سادس هو دعوة المهدى إلى الهجرة إلى المواضع التى اتخذها مراكز لدعوته اقتداء بهجرة الرسول صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، وسمّى أتباعه بالأنصار اقتداء بتسمية الرسول لأهل المدينة بالأنصار، وحرّم الطرق الصوفية كما أسلفنا وحرّم على أنصاره أن يسموا أنفسهم الدراويش.