للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهناك أخبار كثيرة تدل على أن الخطباء كانوا يزوّرون كلامهم ويعدونه على أنفسهم إعدادا طويلا، ثم يلّقونه على الناس، حتى لقد روى ذلك عن عمر بن الخطاب (١). وكان الخطيب يستشهد أحيانا ببعض الأمثال، أو ببعض أبيات من الشعر تؤكد المعنى الذى يريد أن يصبّه فى نفوس سامعيه صبّا، على نحو ما نجد فى خطبة لأبى بكر فى الأنصار (٢).

وإذا كنا قد لاحظنا فى الجزء الأول من هذا التأريخ للأدب العربى غلبة السجع على خطباء الجاهلية فإننا نلاحظ فى هذا العصر أنه كاد ينحسر تماما عن الخطابة، إلا بقايا ظلت فى خطابة الوفود حين كانت تقدم على الخلفاء.

يقول الجاحظ: «كانت الخطباء تتكلم عند الخلفاء الراشدين، فتكون فى تلك الخطب أسجاع كثيرة» (٣)، وبقية أخرى استظهرها بعض المتنبئة فى حروب الردة مثل مسيلمة الكذاب متنبئ اليمامة، ويقول الجاحظ إنه «عدا على القرآن فسلبه وأخذ بعضه وتعاطى أن يقارنه» (٤). ومما يروى له-إن صحّ- قوله (٥):

«سمع الله لمن سمع، وأطمعه بالخير إذا طمع، ولا زال أمره فى كل ما سرّ نفسه يجتمع، رآكم ربكم فحيّاكم، ومن وحشة خلاّكم، ويوم دينه أنجاكم، فأحياكم علينا من صلوات معشر أبرار، لا أشقياء ولا فجار، يقومون الليل ويصومون النهار، لربكم الكبار، رب الغيوم والأمطار».

ونستطيع أن نقول إن السجع فى خطابة هذا العصر كان شيئا عارضا، إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسجع فى خطابته، وكان ينفر منه حين يلهج به أحد محدثيه (٦)، كراهية للتشبه بالكهّان فى سجعهم، وسار على هديه الخلفاء الراشدون وغيرهم من جلّة الصحابة، يدلّ على ذلك ما يروى من أن عمر بن الخطاب سأل صحارا العبدى حين قدم عليه من غزو مكران الفارسية عن شأنها وشأن العرب هناك، فأجابه: «أرض سهلها جبل، وماؤها وشل (٧)


(١) الطبرى ٢/ ٤٥٦ وقارن بكلمة لعثمان ابن عفان فى البيان والتبيين ١/ ٣٤٥ وعيون الأخبار ٢/ ٢٣٥.
(٢) زهر الآداب ١/ ٣٢
(٣) البيان والتبيين ١/ ٢٩٠.
(٤) الحيوان ٤/ ٨٩.
(٥) الطبرى ٢/ ٤٩٨.
(٦) صحيح مسلم (طبع الآستانة) ٥/ ١١١ وموطا مالك (طبع حجر بالقاهرة) ٢/ ١٩٢.
(٧) وشل: قليل.

<<  <  ج: ص:  >  >>