للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والفصاحة ما ملك به أزمّة القلوب، وكأنما كانت المعانى والأساليب موقوفة بشخوصها بين يديه، ليختار منها ما تهش له الأسماع وتصغى له الأفئدة.

وقد ظل طوال مكثه بمكة يتلو على قريش ومن يلقاه فى الأسواق كتاب الله حينا، وحينا آخر كان يخطب فى نفس معانى القرآن المكية متحدثا عن رسالته، وداعيا إلى وحدانية الله مبينا أنه يهيمن على الناس فى أعمالهم وأنه سيبعثهم يوم القيامة، ليجزى بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا، حتى إذا انتقل إلى المدينة فرضت الخطابة-كما قدمنا-فى صلاة الجمع والأعياد ثم فى مواسم الحج. وكان ما يزال يخطب فى الأحداث التى تلمّ. وفى أخباره أنه كان يطيل الخطبة أحيانا إلى ساعات (١) غير أن كتب الأدب والتاريخ لم تحتفظ من هذا التراث القيم إلا بأطراف قليلة، ولعل مرجع ذلك إلى طول المسافة بين خطبه وعصر التدوين فضاعت أو سقطت من يد الزمن إلا بقايا قليلة.

وأكثر هذه البقايا مما خطب به عليه الصلاة والسلام بعد الهجرة، وهو فيها يتطابق مع آى القرآن التى كانت تنزل عليه، إذ نراه تارة واعظا، وتارة مشرّعا، وقد يجمع بين الطرفين من الوعظ والتشريع فى نسيج بلاغى رائع. ونحن نسوق أول خطبة خطبها بالمدينة حين صلى بالناس فى دخوله إليها صلاة الجمعة، وهى تمضى على هذه الشاكلة (٢):

«الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه وأو من به ولا أكفره وأعادى من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى والنور والموعظة على فترة من الرسل وقلّة من العلم وضلالة من الناس وانقطاع من الزمان ودنوّ من الساعة وقرب من الأجل. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرّط وضل ضلالا بعيدا. وأوصيكم بتقوى الله، فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضّه على الآخرة وأن يأمره بتقوى الله. فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة، ولا أفضل من ذلك ذكرا. وإن تقوى الله، لمن عمل به على وجل ومخافة من ربه، عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة. ومن يصلح الذى بينه وبين الله من


(١) إعجاز القرآن للباقلانى ص ٦٣.
(٢) الطبرى ٢/ ١١٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>