للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويعود إلى العلاقة بين الفرد وجماعته الكبرى من الأمة، فيقرر أن المؤمنين إخوة، لكل منهم على صاحبه ما للأخ على أخيه من التآزر والتعاون والتحابّ، فلا بطش ولا ظلم ولا نهب، ولا حرب ولا سفك للدماء. وإنه لعهد من نقضه عاد كافرا آثما قلبه. لقد انتهى عهد الحياة القبلية وكل ما أتصل بها من تنابذ وتفاخر، فالناس جميعا لآدم، ولا عربى عدنانى ولا عربى قحطانى، بل لا عربى ولا أعجمى، فقد وضعت موازين جديدة لحياة العرب، فلم يعد التفاضل بالنسب والحسب، إنما أصبح بالتقوى فهى معيار التفاضل. ويلفت الرسول سامعيه إلى ما قرّره القرآن فى الميراث وأنصبته. وأن للمورّث أن يوصى بالثلث من ماله. ويرسى قاعدة مهمة فى شرعية الأبناء، وخاصة هؤلاء الذين تلدهم العواهر، فينسبهم إلى أصحاب الفراش، وكانوا ينسبونهم إلى غير آبائهم، وقد لا ينسبونهم أبدا، فحرّم ذلك تحريما باتّا. وبذلك قضى على نبالة النسب من جهة الخئولة قضاء مبرما.

وعلى هذا النحو كان الرسول صلوات الله عليه يبيّن فى خطابته حدود الحياة الإسلامية وما ينبغى أن يأخذ به المسلم نفسه فى علاقاته الكبرى مع أفراد أمته وعلاقاته الصغرى مع أسرته. فإن ترك ذلك فإلى وعظ المسلمين وما ينبغى أن يأخذوا أنفسهم به، فى سلوكهم حتى تزكو نفوسهم، وفى عبادتهم لربهم وتقواه حق التقوى حتى لا يزيغوا ولا ينحرفوا عن المحجة، بل يتدرجوا فى مراقى الكمال الإنسانى.

وهذه الخطبة وسابقتها تصوران فى دقة حسن منطق الرسول فى خطابته، وأنه لم يكن يستعين فيها بسجع ولا بلفظ غريب، فقد كان يكره اللونين جميعا من الكلام لما يدلاّن عليه من التكلف، وقد برّأه الله منه إذ يقول فى كتابه العزيز:

قل يا محمد: {(وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ).} والذى لا شك فيه أنه كان يبلغ بعفوه وقوى فطرته ما تنقطع دونه رقاب البلغاء، وقد وصف الجاحظ بلاغته فى خطابته أدق وصف، فقال إنه: «جانب أصحاب التقعيب (١)، واستعمل المبسوط فى موضع البسط والمقصور فى موضع القصر، وهجر الغريب الوحشىّ،


(١) التقعيب: التقعير وهو التكلم بأقصى قعر الفم.

<<  <  ج: ص:  >  >>