للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وانتصر على الثلاثة الأولين، ودخل مع معاوية فى حروب صفّين، ثم كانت خدعة التحكيم، وخرج عليه فريق من جيشه، فاضطرّ إلى حربه، وهو فى كل ذلك يخطب واعظا حينا وداعيا إلى جهاد خصومه حينا آخر. وكان خطيبا مفوّها لا يشقّ غباره، ومن مواعظه قوله (١):

«إن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطّلاع، وإن المضمار (٢) اليوم والسباق غدا. ألا وإنكم فى أيام أمل من ورائه أجل، فمن أخلص فى أيام أمله قبل حضور أجله فقد نفعه عمله، ولم يضرره أمله، ومن قصر فى أيام أمله قبل حضور أجله خسر عمله، وضرّه أمله، ألا فاعملوا لله فى الرغبة، كما تعملون له فى الرّهبة، ألا وإنى لم أر كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها! »

وطبيعى أن تكثر خطبه فى حروب خصومه، وقد ظل نحو أربع سنوات يجاهدهم ويخطب فى أصحابه حاثّا لهم على الجهاد، ومن قوله فى خطبة (٣) له بأخرة من أيامه وقد تقاعس بعض جنده وأخذت جنود معاوية تغير على أطراف العراق.

«إن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل وشمله البلاء، ولزمه الصّغار، وسيم الخسف، ومنع النّصف (٤). ألا وإنى قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا وسرّا وإعلانا، وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، فو الله ما غزى قوم قط فى عقر دارهم إلا ذلّوا، فتواكلتم وتخاذلتم، وثقل عليكم قولى، واتخذتموه وراءكم ظهريّا، حتى شنّت عليكم الغارات. . .

فيا عجبا من جدّ هؤلاء القوم فى باطلهم، وفشلكم عن حقكم. . . حتى صرتم هدفا يرمى وفيئا ينتهب، يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون. .

قد وريتم (٥) صدرى غيظا، وجرّعتمونى الموت أنفاسا (٦)، وأفسدتم علىّ رأيى بالعصيان والخذلان».


(١) البيان والتبيين ٢/ ٥٢.
(٢) المضمار: الزمن الذى تضمر فيه الخيل للسباق وكذلك الموضع.
(٣) البيان والتبيين ٢/ ٥٣.
(٤) النصف: الإنصاف.
(٥) وريتم: ملأتم، وأصله من ورى القيح جوفه إذا أكله.
(٦) الأنفاس: جمع نفس بالتحريك، وهو الجرعة من الماء ونحوه.

<<  <  ج: ص:  >  >>