للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فى الأمر، ولا تجتهد مسرعا حتى نتبين، فإنها الحرب، والحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث (١) الذى يعرف الفرصة والكفّ».

وتوفّى عمر، فخلفه عثمان، وكان يهبط درجة عنه وعن أبى بكر فى الفصاحة والبيان. ويروى أنه أرتج عليه يوما وقد أراد الخطابة فى الناس فقال:

«إن أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالا، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام خطيب». وليس معنى ذلك أنه كان يرتج عليه دائما، فقد كان يخطب أحيانا، فيملأ النفس بمواعظه، على شاكلة قوله حين بايعه أهل الشورى والناس (٢):

«إنكم فى دار قلعة (٣) وفى بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، فلقد أتيتم، صبّحتم أو مسّيتم. ألا وإن الدنيا طويت على الغرور، فلا تغرّنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنّكم بالله الغرور. اعتبروا بمن مضى ثم جدّوا ولا تغفلوا، فإنه لا يغفل عنكم، أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين آثروها وعمروها ومتّعوا بها طويلا؟ ألم تلفظهم؟ ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة فإن الله قد ضرب لها مثلا، فقال عزّ وجل: {(وَاِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً، الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)»}.

وامتحن فى آخر أيامه بالثورة عليه، فلم تنحرف نفسه، بل ظل صابرا يتلو القرآن ويدعو الناس إلى أن لا يحدثوا فتق هذه الفرقة، وهو فى أثناء ذلك يعظهم أن لا تبطرهم الدنيا وأن يؤثروا ما بقى على ما يفنى فيلزموا الجماعة، ولا يتخاذلوا فيصبحوا أحزابا.

وولى علىّ الخلافة من بعده، والفتنة تموج بالناس، وطلحة والزبير والسيدة عائشة يؤلّبون عليه أهل البصرة ومعاوية يؤلب أهل الشام، فاصطدم بهم جميعا، وانتقل إلى الكوفة يجمع الناس ويحاربهم.


(١) المكيث: الرزين المتبصر فى الأمور.
(٢) الطبرى ٣/ ٣٠٥.
(٣) قلعة: انقلاع أى أنها لا تدوم.

<<  <  ج: ص:  >  >>