للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإنى جبان الكلب بيتى موطّأ ... جواد إذا ما النفس شحّ ضميرها

وكانوا لا يقدرون شيئا كما يقدرون الوفاء، فإذا وعد أحدهم وعدا أوفى به وأوفت معه قبيلته بما وعد، ومن ثم أشادوا بحماية الجار لأنه استجاربهم وأعطوه عهدا أن ينصرونه. وجعلهم ذلك يعظمون الأحلاف فلا ينقضونها مهما قاسوا بسببها من حروب. وبلغ من اعتدادهم بهذه الخصلة أن كانوا يرفعون لمن يغدر منهم لواء فى مجامعهم وأسواقهم، حتى يلحقوا به عار الأبد. يقول الحادرة لصاحبته سمية (١):

أسمىّ-ويحك-هل سمعت بغدرة ... رفع اللواء لنا بها فى مجمع

وليس هناك خلة تؤكد معنى العزة والكرامة إلا تمدحوا بها، فهم يتمدحون بإغاثة الملهوف وحماية الضعيف والعفو عند المقدرة، كما يتمدحون بالأنفة وإباء الضّيم، وكيف يقبلون الضيم، وهم أهل حرب وجلاد، يقول المتلمّس (٢):

إنّ الهوان حمار الأهل يعرفه ... والحرّ ينكره والرّسلة الأجد (٣)

ولا يقيم على خسف يراد به ... إلا الأذلاّن: عير الأهل والوتد (٤)

هذا على الخسف معقول برمّته ... وذا يشجّ فلا يبكى له أحد

فهم لا ينكرون شيئا مثل إنكارهم للهوان والضيم، فهما السوأة الكبرى والمثلبة العظمى إذ يعنيان الذل وأن القبيلة استبيحت فلم تعد تستطيع الدفاع عن كرامتها.

وكل شئ إلا الهوان، وكان أقل شعور به يثيرهم، على نحو ما مر بنا من ثورة عمرو بن كلثوم على عمرو بن هند حين علم بإهانة أمه فى بلاطه، وكان نازلا معها عنده، فاستل سيفه وقتله، وتغنى شعراء تغلب طويلا بهذا الحادث مفاخرين بعزتهم. وكان للشجاعة والفروسية عندهم منزلة ليس فوقها منزلة، بحكم حروبهم الدائرة التى لا تنى ولا تفتر

وكان سادتهم يمثلون هذه الخصال جميعا فى أقوى صورها، مضيفين إليها


(١) المفضليات ص ٤٥.
(٢) حماسة البحترى ص ٢٠.
(٣) الرسلة: الناقة الذلول، الأجد: الموثقة الخلق
(٤) العير: الحمار.

<<  <  ج: ص:  >  >>