وقد جعله دفاعه عن قيس يصطدم بالأخطل شاعر تغلب، وسنعرض لذلك عما قليل. وفى الحق أن الفرزدق أهم شاعر اشتبك معه، إذ كان على شاكلته يعرف كيف يبرى نبال الهجاء المصمية، وقد تبادل معه نقائض كثيرة، وظلا سنين طويلة يتحاوران ويتجادلان وكل منهما يغترف من نبع لا ينضب فى نفسه.
ومن يرجع إلى شرح أبى عبيدة لنقائضهما يجده يستعين على شرحه لها بأيام العرب، ذلك لأن الشاعرين لم يتركا يوما للقبائل التى يتحدثان عنها دون أن يذكراه. فجرير يتحدث عن أيام يربوع وقيس، والفرزدق يتحدث عن أيام مجاشع وتميم، وقد يضيف إلى ذلك حديثا عن أيام تغلب انتصارا للأخطل. وهما لا يتحدثان عن أيام الجاهلية فحسب، بل يتحدثان أيضا عن أيام الإسلام، وخاصة ما كان بين تميم وقيس فى خراسان، إذ دفعت تميما الحوادث هناك لكى تنكّل بعبد الله بن خازم السّلمى والى ابن الزبير حين ثار على عبد الملك بعد قتل مصعب، كما نكلت بعد ذلك بقتيبة بن مسلم الباهلى حين ثار على سليمان ابن عبد الملك.
ومعنى ذلك أن جريرا والفرزدق درسا دراسة عميقة تاريخ القبائل العربية فى الجاهلية والإسلام واستلهما هذا التاريخ فى نقائضهما، بحيث تعدّ وثائق تاريخية طريفة. وكان ذلك من غير شك يصعّب عمل النقيضة، لأنها لم تكن هجاء فحسب، بل كانت أيضا دراسة، ولم يكن الشاعر يدرس تاريخ القبائل التى كان يحامى عنها فحسب، بل كان يدرس أيضا تاريخ القبائل التى يهجوها ليقف على الأيام التى انهزمت فيها، حتى ينشر مخازيها فى الناس.
وواضح أن أساس الهجاء فى النقائض كان يقوم على العصبيات القبلية، وقد مرّ بنا فى غير هذا الموضع أن هذه العصبيات اختلطت فى العصر الأموى بالسياسة، وهيأ ذلك النقيضة لأن تخوض فى مديح الخلفاء والولاة، بحيث أصبحت لا تحتوى فخرا وهجاء فحسب، بل تحتوى كذلك مديحا، كما تحتوى نسيبا وغزلا. والشاعر فى كل هذه الموضوعات يستلهم الإسلام فى معانيه، كما يستلهم قدرة العقل العربى الجديدة على الجدال ونقض الدليل بالدليل، وقدرته أيضا على التوليد فى المعانى. وبذلك كله أصبحت النقيضة