للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتطوى صفحة حياته الزاهية إذ يتوفّى عبد الملك، ويخلفه ابنه الوليد، فيأفل نجمه، إذ يقصيه عنه، ويقرّب منه شاعرا شاميّا مسلما هو عدى بن الرّقاع العاملى، وبذلك انزوى الأخطل، ولم يعد له كبير شأن. وقد مدح الوليد، ومدائحه فيه فاترة.

وعلى نحو ما كان الأخطل يجيد المديح كان يجيد نعت الخمر ودنانها ونداماها، ويطيل المديح فى عتقها والسرور بشربها، يقول:

صهباء قد كلفت من طول ما حبست ... فى مخدع بين جنّات وأنهار (١)

عذراء لم يجتل الخطّاب بهجتها ... حتى اجتلاها عبادىّ بدينار (٢)

واقرأ له القصيدة الأولى فى ديوانه، فستراه يصور فيها زقاق الخمر تصويرا بديعا، إذ يقول،

أناخوا فجرّوا شاصيات كأنها ... رجال من السّودان لم يتسربلوا (٣)

ويصف تمشيها فى دمه وجسمه وعظامه، فيقول:

تدبّ دبيبا فى العظام كأنه ... دبيب نمال فى نقا يتهيّل (٤)

ويرسم صورة المنتشى بها نشوة تفقده حسه ووعيه، على هذا النحو:

صريع مدام يرفع الشّرب رأسه ... ليحيا وقد ماتت عظام ومفصل

نهاديه أحيانا وحينا نجرّه ... وما كاد إلا بالحشاشة يعقل (٥)

إذا رفعوا صدرا تحامل صدره ... وآخر مما نال منها مخبّل

وكان الأخطل شغوفا بالخمر شغفا شديدا، حتى لنراه يذكر فى حديث له مع عبد الملك أنها هى التى تمنعه من إعلان إسلامه (٦). وفى أخباره وأشعاره ما يدل على انصياعه لدينه أحيانا، فقد كان يتمسّح بالقساوسة تبركا، وكانوا إذا أنزلوا به عقابا خضع لهم واستكان. ونراه يذكر الصليب فى ديوانه كما يذكر قديس قبيلته مار سرجيس، ويقسم بالمسيح والرهبان. وقد ظل يهاجى جريرا إلى أن توفّى سنة اثنتين وتسعين للهجرة.


(١) الصهباء: الخمر. كلفت: تغير لونها.
(٢) عذراء: لم تفضسّ. العبادى: نسبة إلى قوم فى الحيرة كانوا يتجرون فى الخمر، وهم نصارى، سموا العباد.
(٣) الشاصيات: الممتلئة.
(٤) النقا: الكثيب من الرمل.
(٥) نهاديه: نسوقه. الحشاشة: بقية النفس.
(٦) أغانى (دار الكتب) ٨/ ٢٩٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>