للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

انتظارا للحوادث وتهيؤا للقتال، إلا نفرا منهم، أبوا حمل السلاح وتعلقوا بالحياة، وهو تعلق يردّ فى أكثر الأمر إلى إشفاقهم على بناتهم وأبنائهم أن يقلب لهم الدهر المجنّ من بعدهم، وكان لا يزال ثوّارهم يحمسونهم، ويدعونهم إلى الخروج عن دار المسلمين الباغين فى رأيهم، ويصور ذلك ما رواه المبرد (١) من أن أبا خالد القنانى استحبّ القعود، فلامه قطرىّ بن الفجاءة بمثل قوله:

أبا خالد يا انفر فلست بخالد ... وما جعل الرّحمن عذرا لقاعد (٢)

أتزعم أن الخارجىّ على الهدى ... وأنت مقيم بين لصّ وجاحد

فكتب إليه أبو خالد.

لقد زاد الحياة إلىّ حبّا ... بناتى إنهن من الضّعاف

أحاذر أن يرين الفقر بعدى ... وأن يشربن رنقا بعد صافى (٣)

ولا يتحول مثل هذا الاختلاف فى الرأى بينهم إلى هجاء حاد، بل يقف عند هذا اللون من اللوم والاعتذار. وكانوا يحسون حقّا بتعاطف وتراحم قويين بينهم، فهم أصحاب مقالة واحدة، وجمهورهم يدافع عنها بأرواحه حتى الذّماء الأخير. وعلى نحو ما يقطر شعرهم تعاطفا وحماسة يقطر زهدا فى الدنيا ورفضا لها طلبا لما عند الله من حسن المثوبة. ومن المحقق أنهم أوغلوا فى مقالتهم دون رفق ودون تفكير عميق فى المصلحة الحقيقية للأمة وأن من الخير لها أن تجتمع لا أن تتنابذ فرقا وتتقطع شيعا ويسفك الأخ دم أخيه.

وملاحظة أخيرة فى أشعارهم، هى أنهم يبدئون ويعيدون فى معانيهم التى صورناها، ولولا ما يلقانا فيها دائما من صدق العاطفة وحرارة الشعور لأحسسنا فى أثناء قراءتها بغير قليل من الملل والسأم. ولعل هذا هو السبب فى أن شخصياتهم الشعرية قلما تمايزت أو تباينت، وكأنما هى صور متعددة من نمط واحد، صور متشابهة، ومن ثمّ أشكلت نسبة كثير منها إلى أصحابها الحقيقيين على الرواة، فتارة ينسبونها إلى هذا الخارجى أو ذاك. وارجع إلى يوم «دولاب»


(١) المبرد ص ٥٢٩.
(٢) يا انفر يا للتنبيه أو فى تقدير حذف منادى مثل يا أخى.
(٣) الرنق: الكدر.

<<  <  ج: ص:  >  >>