للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عذاب ربهم، يقول عمرو بن الحصين فى رثاء عبد الله بن يحيى وقائده أبى حمزة ومن قتل من أصحابهما (١):

يا ربّ أسلكنى سبيلهم ... ذا العرش واشدد بالتّقى أزرى

فى فتية صبروا نفوسهم ... للمشرفيّة والقنا السّمر (٢)

متأهّبين لكل صالحة ... ناهين من لاقوا عن النّكر

وما يزال يصور خشوعهم وخشيتهم من النار وانكبابهم على العبادة انكبابا لا ينامون فيه إلا اختلاسا وآونة بعد آونة إلى أن يقول:

كم من أخ لك قد فجعت به ... قوّام ليلته إلى الفجر

متأوّه يتلو قوارع من ... آى القران مفزّع الصّدر

ويمضى فيصور انصرافهم عن الدنيا ولذاتها واحتسابهم أنفسهم لربهم حتى إذا أشرعت الرماح وسلّت السيوف ورعدت الحرب بصواعق الموت تهافتوا على الموت شوقا إلى الجنة. ولا ريب فى أن هذه صورة جديدة فى الرثاء، تخالف ما نألفه عند غيرهم من الشعراء، فهم لا يبكون فيمن يرثونهم خلال الكرم والمروءة، وإنما يبكون فيهم المثل الأعلى للخارجى من التقوى ورفض الحياة الدنيا وزهرتها ومتاعها، مصورين إقبالهم على الموت الذى يتمنونه لأنفسهم، الموت الذى يفتح لهم أبواب الفراديس والجنان، فهو موت موصول بآمالهم فى حياة الخلد والرضوان. وهو رثاء حماسى، فيه دعوة قوية لمنازلة خصومهم رثاء يفيض بالحنين إلى القتال والمضى قدما حتى تفيض أرواحهم على أعناق أفراسهم، وتتخضب بالدماء صدورها وصدورهم.

وعلى هذه الشاكلة دائما رثاؤهم وحماستهم، فهم يتعطشون للموت، حتى القعدة منهم، فقد كانت فرقهم سوى الأزارقة تجيز القعود عن الحرب. ولكن نحسّ دائما كأن هذا القعود هدنة مسلّحة إلى حين، وبذلك نفسر كثرة ثورات الصفرية بالموصل، مع أنهم كانوا أكثر الخوارج تحمسا للقعود، فهم يقعدون


(١) أغانى (ساسى) ٢٠/ ١١١ وما بعدها.
(٢) المشرفية: السيوف.

<<  <  ج: ص:  >  >>