للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهو يريد أن يتخلص من الحياة الزائلة وينزح عنها إلى الحياة الباقية التى لا تزول، وهو لذلك يستبطئ الموت، وكأنما ملّ دنياه. وتصوّر لنا هذا الملل إحدى نسائهم المقاتلات، وهى أم حكيم، إذ تقول (١):

أحمل رأسا قد سئمت حمله ... وقد مللت دهنه وغسله

ألا فتى يحمل عنى ثقله

وكأنما أصبح الموت شعارهم، بل قل الاستشهاد، حتى يلحقوا بالملأ الأعلى وبمن سبقوهم إلى جنات ربهم ونعيمه، يقول أبو بلال مرداس فى خروجه (٢):

أبعد ابن وهب ذى النّزاهة والتّقى ... ومن خاض فى تلك الحروب المهالكا

أحبّ بقاء أو أرجّى سلامة ... وقد قتلوا زيد بن حصن ومالكا

فياربّ سلّم نيتى وبصيرتى ... وهب لى التّقى حتى ألاقى أولئكا

فهو يخرج طلبا للاستشهاد حتى يلحق بعبد الله بن وهب الراسبى والسابقين من رفاقه، وهو يدعو ربه صادقا أن ينيله طلبته، فيقتل فى سبيل عقيدته، وكأن الحياة حجاب صفيق يريد أن يجتازه إلى ربه وإلى رفاقه.

وقد جعلهم ذلك لا يبكون قتلاهم ولا يرثونهم بالصورة التى نجدها عند شعراء الفرق الأخرى، إذ كان قتلهم يحقق فى رأيهم السعادة المنشودة، وهى سعادة يطلبها كل خارجى لنفسه، لذلك مضوا يمجدون قتلاهم على شاكلة قول أم عمران الرّاسبى حين قتل ابنها فى يوم دولاب (٣):

الله أيّد عمرانا وطهّره ... وكان عمران يدعو الله فى السّحر

يدعوه سرّا وإعلانا ليرزقه ... شهادة بيدى ملحادة غدر (٤)

ودائما نجد هذه الصورة من الرثاء، إذ يصوّرون استشهاد قتلاهم زلفى إلى الله راسمين فيهم مثلا أعلى للتقوى والصلاح والانكباب على عبادة الله خوفا من


(١) أغانى (دار الكتب) ٦/ ١٥٠ وتريد أم حكيم بدهن شعرها ما تدهنه به من الطيب.
(٢) المبرد ص ٥٨٦.
(٣) أغانى ٦/ ١٤٥.
(٤) ملحادة: من الإلحاد والتاء للمبالغة. غدر: كثير الغدر.

<<  <  ج: ص:  >  >>