فيها، ويروى الجاحظ عن عبد الأعلى أنه قال:«رأيت الطرماح مؤدبا بالرّىّ فلم أر أحدا آخذ لعقول الرجال ولا أجذب لأسماعهم إلى حديثه منه، ولقد رأيت الصبيان يخرجون من عنده، وكأنهم قد جالسوا العلماء».
ويظهر أنه لم يكن يكفيه ما تدرّه عليه هذه المهنة، إذ نراه يحمل مديحه إلى أبواب الأمراء والولاة، ففى أخباره أنه قدم مع الكميت على مخلد بن يزيد ابن المهلب، وأراد أن يمدحه قاعدا، فنحّاه مخلد، ودعى الكميت فأنشده قائما فأمر له بخمسين ألف درهم، فلما خرجا شاطره الكميت ما أخذه. وفى أخباره أيضا أنه مدح خالد بن عبد الله القسرى الذى ولى العراق سنة ١٠٥ للهجرة، فأعطاه كل ما بعث به إليه واليه على سجستان، وهو من هذه الناحية يختلف عن عمران اختلافا بعيدا، إذ يطلب الدنيا والمال ملحّا فى طلبه، وأيضا فإننا نراه يستشعر عصبية شديدة لقبيلته، بل لكل أخواتها من القبائل القحطانية وخاصة الأزد قبيلة المهلب بن أبى صفرة، ودفعه ذلك إلى أن يدخل فى معركة حادة مع الفرزدق شاعر تميم عدوة الأزد والقبائل القحطانية عامة.
ومرّ بنا حديثنا عن هذه العداوة وكيف احتدمت فى البصرة وخراسان. ونعجب للطرماح حين تتعمقه هذه العداوة وما يطوى فيها من عصبية وهو خارجى، والخوارج لا يعتدون بالعصبيات القبلية، إنما يعتدون بالعصبية المذهبية، وكأنما كان مذهبه الخارجى يأتى على هامش حياته. ونعجب حين نقرأ هجاءه للفرزدق ولغيره من شعراء القبائل الذين اصطدم بهم إذ نراه يقذع فيه إقذاعا شديدا، ومن طريف هجائه قوله فى تميم:
لو حان ورد تميم ثم قيل لها ... حوض الرسول عليه الأزد لم ترد
أو أنزل الله وحيا أن يعذّبها ... إن لم تعد لقتال الأزد لم تعد
لا تأمننّ تميميّا على جسد ... قد مات ما لم تزايل أعظم الجسد
ونراه يسوق بجانب هجائه مديحا مفرطا بنفسه، لا يتحدث فيه عن بلائه فى الحروب على شاكلة قطرى إنما يتحدث فيه عن خلقه معتدّا بشمائله اعتدادا مسرفا، يقول: