يشبّ حتى أخذ يختلف إلى دروس العلماء يتلقن الفقة والحديث النبوى وأنساب العرب وأيامها، ولم يلبث أن تحوّل معلما، يعلم الناشئة فى مسجد الكوفة. ونراه يشدو الشعر، وتنعقد مودة بينه وبين الطّرمّاح على نحو ما تحدثنا عن ذلك آنفا.
ولا يلبث أن يبرع فى الشعر، فيطلب به جوائز الأشراف والولاة والخلفاء ففى أخباره أنه وفد على مخلد بن يزيد بن المهلب حين كان أبوه يوليه أعمالا فى مدة إمارته على خراسان لعهد سليمان بن عبد الملك، ويقال إنه لقى على بابه أربعين شاعرا، كلهم ينتظر الإذن له، وتروى كتب الأدب له مدائح مختلفة فيه. ونراه فى مطالع القرن الثانى يفد على يزيد بن عبد الملك.
ويظهر أن صلته بالهاشميين بدأت مبكرة، ففى أخباره أنه امتدح على بن الحسين الملقب بزين العابدين، ومعروف أنه توفّى سنة تسع وتسعين. ونمضى معه إلى ولاية خالد القسرى على العراق (١٠٥ - ١٢٠ هـ) فنجده قد أصبح شيعيّا خالصا، وقد استخلصه لنفسه زيد بن على بن الحسين إمام فرقة الزيدية فإذا هو يناضل عنه ويدافع، ويعيش لهذا النضال والدفاع، إذ أشرب قلبه حبّه وحب الهاشميين، حتى لينكر من نفسه مديحه القديم، وحتى ليقول:
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب ... ولا لعبا منّى وذو الشّيب يلعب
ولم تلهنى دار ولا رسم منزل ... ولم يتطرّبنى بنان مخضّب
ولكن إلى أهل الفضائل والنّهى ... وخير بنى حوّاء والخير يطلب
بنى هاشم رهط النبىّ فإننى ... بهم ولهم أرضى مرارا وأغضب
فلم يعد فيه شئ للغزل ولا للحب سوى حب بنى هاشم، وينصرف إلى هذا الحب، وينقطع له، ويشتهر بإحسانه فيه، حتى ليقول الفرزدق المتوفّى سنة ١١٠ وقد ذكر له: إنه وجد آجرّا وجصّا فبنى، أى أنه وجد مادة غنية لأشعاره، فأحسن فى نظمه. ونراه فى تصويره لهذا الحب ثائرا ثورة عنيفة على بنى أمية وواليهم خالد القسرى. إذ كان ما بنى يؤلّب عليه وعليهم الناس.
داعيا لزيد دعوة صريحة، حتى لنراه يكتب-كما أسلفنا-إلى أهل مرو أن يثوروا فى وجه أسد القسرى حين ولاه أخوه خالد على خراسان.