للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذا هزّه فى عظم قرن تهلّلت ... نواجذ أفواه المنايا الضّواحك (١)

يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدى ... بحيث اهتدت أمّ النجوم الشّوابك (٢)

وتلك كانت حياة أكثرهم، فهم يقطعون مفازة فى النهار، فإذا جنّهم الليل وجدتهم فى مفازة أخرى وقد ركبوا ظهور المهالك والمعاطب، لا يستصحبون رفيقا غالبا سوى أرجلهم التى تعودت العدو السريع. وهم دائما مفزّعون حتى فى النوم، فإذا ناموا لم ينم قلبهم بل ظل يكلؤهم ويرعاهم خيفة عدو راصد من وحش أو إنسان، بل إن النوم لا يكاد يلم بعيونهم إلا غرارا، فهى معلقة بسيوفهم التى لا تلبث أن تستقر فى صدور من يهجمون عليهم، فيضحك الموت ويكشر عن أنيابه الغلاظ.

وعلى هذه الشاكلة هم دائما مستوحشون، بل إنهم ليؤثرون الوحشة ويستحبونها إذ يرون فيها الأنس، فأنسهم فى التفرد بالفلوات والقفار التى تمرسوا بها وعرفوا مسالكها ودروبها معرفة تجعلهم لا يضلون قصدهم كما لا تضل الشمس قصدها، بل يهتدون دائما إليه.

وهذه الحياة القاسية المخوفة هى التى دفعتهم إلى الإشادة باحتمال الشدائد والجرأة والشجاعة، فإن القبيلة إن لم يكن لها حماة يذودون عنها تخطفتها القبائل من حولها وفنيت فيها. وكان أهم حيوان أعانهم على احتمال هذه الحياة المجهدة البعير الذى يتحمل-مثلهم-مشاق الصحراء ولا يرهقه عطش ولا جوع ولا ما يحمله من أثقال. فهو رفيقهم المفضل الذى يوافقهم، ولذلك طالما أشادوا به فى شعرهم.

وكثيرا ما يصفون معه الحيوانات التى تصادفهم من مثل أتن الوحش وحمارها وبقر الوحش وثورها والنعام والظباء. وكان فرسانهم ينفقون أيامهم على صهوات الجياد يرتادون بها مجاهل الصحراء ويلقون عليها الأعداء، وقد يتخذونها لصيد الوحش على نحو ما يصور لنا ذلك امرؤ القيس فى معلقته وزهير فى لاميته (٣).

وكان صيد الحيوان الشغل الشاغل لكثيرين منهم، فكانوا يدربون الكلاب عليه ويضرّونها تضرية، حتى تصبح من الجوارح الفاتكة، وفى شعرهم قطع كثيرة تصف المعارك التى كانت تنشب بينها وبين الأتن وحمارها أو البقر وثورها.


(١) القرن: الكفء والنظير، تهللت: تلألأت وأشرقت.
(٢) أم النجوم: الشمس.
(٣) انظر ديوان زهير ص ١٢٤ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>