للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا تحدّ. ووقفت الصحراء تحميهم وتحرس تقاليدهم ولغتهم وتقيم أسوارا من دونهم ودون هذه الحياة الصحراوية، وهى حياة كان غذاؤهم فيها بسيطا، فقليل من الشعير يكفيهم، وإذا أضيف التمر واللبن فذلك غذاء رافه، وكان لباسهم بسيطا كغذائهم، وهو ليس أكثر من ثوب طويل يضمه فى وسطه منطقة وقد تلفه عباءة، وغطاء للرأس يمسكه عقال.

ولكن لا تظن أن هذه الحياة البسيطة كانت سهلة، فقد كانت الصحراء مليئة بالمخاوف والمخاطر، إذ فيها غير قليل من الوحوش والسباع والحشرات والحيات، وفيها القفار الجرداء الزاخرة بالخنادق والمهاوى ورياح السموم، وفيها حنادس الليل المظلم المخيف التى كانت تلقى فى روعهم بالخيالات والأوهام وما تمثل لهم من السّعالى والجن والغيلان. وفى تضاعيف ذلك كان العرب يتربص بعضهم ببعض، إذ كانت حياتهم كما قدمنا حياة حربية دامية، وكاد أن لا يكون هناك حى أو عشيرة بل أسرة إلا وهى واترة موتورة.

وقد تحولت هذه الحياة الحربية من بعض وجوهها إلى مصدر من مصادر رزقهم، إذ كانوا يتخذون الغزو وسيلة من وسائل عيشهم، وهو عيش مشوب بالضنك والشظف وهذا الصراع العنيف الذى كانوا يخوضونه ضد مخاطر الصحراء ومن يترصدهم من الأعداء، وصوّر ذلك تصويرا طريفا تأبط شرا فى كلمة له (١) فقال:

يظلّ بموماة ويمسى بغيرها ... جحيشا ويعرورى ظهور المهالك (٢)

ويسبق وفد الريح من حيث ينتحى ... بمنخرق من شدّه المتدارك (٣)

إذا خاط عينيه كرى النوم لم يزل ... له كالئ من قلب شيحان فاتك (٤)

ويجعل عينيه ربيئة قلبه ... إلى سلّة من حدّ أخضر باتك (٥)


(١) المرزوقى ١/ ٩٥ وأمالى القالى ٢/ ١٣٨ وزهر الآداب ٢/ ١٨.
(٢) يظل هنا: يغدو، الموماة: الفلاة، جحيشا: منفردا، يعرورى: يركب.
(٣) وفد الريح: أولها، ينتحى: يقصد. منخرق: سريع يقصد المدو السريع. الشد: العدو، المتدارك: المتلاحق.
(٤) خاط عينيه كرى النوم: نام، الكالئ الرقيب، الشيحان: الجاد فى الأمر.
(٥) الربيئة: الرقيب والديدبان، والسلة: الواحدة من سل السيف، والأخضر: السيف، والباتك: القاطع.

<<  <  ج: ص:  >  >>