للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الإسلام لا يعنى الانقطاع تماما عن الدنيا كزهد الرهبانية، بل هو زهد معتدل، زهد فيه قوة ودعوة إلى العمل والكسب، يقول جلّ وعز: {(وَاِبْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا)} وهو نصيب ينبغى أن لا يصرف المسلم عن الآخرة ونعيمها الخالد.

وزاهد الأمة الأول محمد صلى الله عليه وسلم، ويروى أن رجلا جاءه فقال:

يا رسول الله دلّنى على عمل إذا عملته أحبّنى الله وأحبنى الناس، فقال: «ازهد فى الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس (١)». وقد اندفع وراءه كثير من الصحابة يحيون حياة زاهدة متقشفة، وعلى رأسهم أهل الصّفّة، وهم نفر من فقراء المسلمين اتخذوا صفّة (٢) المسجد منزلا لهم، وعاشوا على صدقات الرسول والمثرين يعبدون الله حق عبادته مرتلين آى الذكر الحكيم. وكان وراءهم كثيرون أخلصوا أنفسهم لتقوى الله حق تقواه، وعلى رأسهم أبو بكر وعلى وعمر وعبد الله ابن عمر وأبو الدرداء وأبو ذرّ، وعبد الله بن عمرو بن العاص وكان يقطع النهار صائما والليل قائما يصلى لربه. وفى ابن سعد وغيره صور كثيرة من هذه المجاهدات والرياضات للنفس (٣).

وجاء عصر الفتوح وجاءت معه الغنائم الوفيرة، فاقتنى العرب الضّياع وشيدوا القصور، وهم فى ذلك لا ينسون تعاليم الإسلام، بل إننا نجد بينهم فى كل مصر كثيرين يعيشون للحياة التقية الصالحة، وسرعان ما تكونت فى كل بلد أقاموا فيه جماعات القرّاء الأتقياء، بالإضافة إلى من كان منهم يعيش فى مكة والمدينة، وأخذ كثير منهم يعيش حياته للنّسك والعبادة. وأكبر إقليم نلتقى فيه بهؤلاء النّسّاك والقراء إقليم العراق، وربما كان لكثرة الحروب فيه أثر فى ذلك، وكأن قوما انصرفوا عن الفتن، خشية على أنفسهم من التورط فى الإثم، إلى النسك والعبادة، كما انصرف إلى ذلك كثيرون ممن لم يستطيعوا الانتصار على الأمويين، فتركوهم ودنياهم، ومضوا يتعبّدون، وكان الخوارج فى


(١) انظر فى هذا الحديث رقم ٣١ فى الأربعين النووية والبيان والتبيين ٣/ ١٦٦.
(٢) الصفة: موضع مظلل من المسجد.
(٣) انظر فى ذلك كتابنا التطور والتجديد فى الشعر الأموى ص ٦٠ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>