جملتهم جماعة كبيرة من الأتقياء، ضلّت فى اجتهادها وما زعمته من كفر الأمويين وجمهور المسلمين، ولكنها لم تضل يوما فى تقواها.
لذلك كله عمّت فى العراق موجة واسعة من التقوى والزهد فى الدنيا ونعيمها المادى زهدا كثيرا ما تطرّفوا فيه، إذ أخذت تدخل فى ثنايا هذا الزهد تأثيرات مسيحية وغير مسيحية، بحكم ما دخل فى الإسلام من الموالى والشعوب الأجنبية. على أن المصدر الأساسى لهذا الزهد كان الإسلام نفسه وما دعا إليه من رفض الدنيا والابتهال إلى الله وانتظار ما عنده من النعيم الحق.
وسرعان ما وجدنا طائفة كبيرة من الوعاظ، تعيش حياتها تعظ الناس وتدعوهم إلى أن يجعلوا العبادة والنسك قرة أعينهم، وهى لذلك ماتنى تحدثهم -مستلهمة القرآن الكريم-عن قدرة الله فى خلقه السموات والأرض، وعن الموت وما ينتظرهم من الحساب يوم القيامة. والحسن البصرى أشهر هؤلاء الوعاظ وهو فى وعظه دائما يذكر الموت، ويذكر النار حتى لكأنه يشاهدها بين عينيه، ويحض حضّا قويّا على الزهد فى الدنيا وحطامها. وكان هو وغيره من الوعاظ لا يزالون يستشهدون فى وعظهم بأشعار لبيد والنابغة الجعدى وغيرهما تلك التى تدعو إلى خشية الله وتقواه، بل ربما استشهدوا بأبيات لبعض الجاهليين، وخاصة تلك التى تصور فناء الدول أو تدعو إلى خلق فاضل.
وطبيعى أن تترك مواعظهم أثرا عميقا فى نفوس الشعراء الذين كانوا يختلفون إلى مجالسهم، وقد مرّ بنا فى غير هذا الموضع مدى تأثير الإسلام ومثاليته الروحية فى الشعراء، كما مرت بنا فى مواضع مختلفة من هذا الكتاب أشعار زاهدة لنفر منهم. ولعل من الطريف أننا نجد بعض الرجاز مثل أبى النجم العجلى والعجّاج يبدءون أراجيزهم بالحمد لله والثناء عليه، وكثيرا ما تتحول الأرجوزة عند ثانيهما إلى موعظة خالصة. وتلقانا عند بعض الشعراء أدعية وابتهالات لله من مثل قول ذى الرمة يناجى ربه قبل موته (١):
يا ربّ قد أشرفت نفسى وقد علمت ... علما يقينا لقد أحصيت آثارى
يا مخرج الروح من جسمى إذا احتضرت ... وفارج الكرب زحزحنى عن النار