للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتريد الآن أن نقف عند نفر منهم تمثلوا فى أشعارهم فكرة رفض الحياة داعين للتفرغ إلى العبادات وإلى الأخلاق الرفيعة التى يدعو إليها الإسلام.

وأول من نقف عنده عروة بن أذينة فقيه المدينة الذى رويت له-كما أسلفنا-مقطوعات فى الغزل العفيف، وله أبيات تصور مبدأ مهما شاع بين الزهاد فى هذا العصر، وهو مبدأ التوكل على الله والثقة فى أنه لا يترك أحدا بدون رزق يكفيه، وبلغ من مبالغة بعضهم فى هذا المبدأ أن رأوا فى السعى والكد نقصا فى التوكل والثقة بربهم. ولا شك فى أن هذا المبدأ يفضى إلى طمأنينة نفسية قوية، كما يفضى إلى طرح الدنيا طرحا تامّا، وفى تقريره يقول عروة:

لقد علمت وما الإسراف من خلقى ... أن الذى هو رزقى سوف يأتينى

أسعى له فيعنّينى تطلّبه ... ولو قعدت أتانى لا يعنّينى

خيمى كريم ونفسى لا تحدّثنى ... إن الإله بلا رزق يخلّينى

وممن اشتهروا بكثرة أشعارهم فى الزهد عبد الله بن عبد الأعلى، ويظهر أنه كان يستمد فى زهده من منابع بعيدة عن الإسلام، إذ نرى من كتبوا عنه يتهمونه فى دينه، ويقولون إنه كان سيئ العقيدة (١)، وهو فى أشعاره يقف كثيرا عند فكرة الفناء من مثل قوله:

يا ويح هذى الأرض ما تصنع ... أكلّ حىّ فوقها تصرع

تزرعهم حتى إذا ما أتوا ... عادت لهم تحصد ما تزرع

وقوله:

من كان حين تصيب الشمس جبهته ... أو الغبار يخاف الشّين والشّعثا

ويألف الظّلّ كى تبقى بشاشته ... فسوف يسكن يوما راغما جدثا (٢)

وفى تضاعيف هذا الشعر الزاهد تلقانا دعوة إلى مكارم الأخلاق يستضئ أصحابها بما جاء فى الذكر الحكيم من مثالية خلقية نبيلة، وأكثر من لهجوا بهذه


(١) لسان الميزان ٣/ ٣٠٥ والمبرد ص ٢٩٤ وما بعدها وانظر أمالى القالى ٢/ ٣٢٣.
(٢) الجدث: القبر.

<<  <  ج: ص:  >  >>