للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كثيرة، كانت موضع التندر بين الشعراء والأتقياء.

وينبغى أن لا نمضى مع الرواة فى كل ما تحدثوا به عن مجونه، إذ نراهم يجعلونه مانويّا زنديقا، يسخر بالقرآن الكريم بل يمزقه تمزيقا (١)، وفى الوقت نفسه تذكر بعض الروايات أنه قتل وهو يقرأ القرآن ويقول: يوم كيوم عثمان (٢).

وفى الحق أن أبناء عمه من الأمويين كانوا أول من بالغ فى وصفه بالمجون، ثم جاء العباسيون بعدهم، فاستغلوه فى التشنيع على خلفاء بنى أمية، وأنهم انزلقوا إلى الدرك الأسفل من انتهاك ما حرّم الله ومن شرب الخمر وإتيان الفسق، بل الكفر جملة والخروج من حدود الدين. ونحن مع تنحيتنا لهذه المبالغات التى لعبت فيها السياسة دورا كبيرا نحتفظ للوليد بمجونه وعكوفه على اللهو والصيد والقنص وإدمانه للخمر ولهجه بالغناء لهجا مسرفا.

وكان الوليد شاعرا مبدعا، فأنفق شعره فى الخمر، وله أشعار فى الغزل والحب، ولكنها دون أشعار الخمر فى الإبداع والروعة، ويظهر أنه ثقف كل ما نظم فيها قديما، وخاصة عند عدى (٣) بن زيد العبادى، وقد مضى ينميّه ويضيف إليه من مواهبه ومشاعره وملكاته ما أتاح لفن الخمريات أن يأخذ طريقه إلى الظهور، إذ لم تعد أشعار الخمر عنده توضع فى ثنايا قصيدة أو فى مقدمتها كما كان الشأن عند عدى وعند الأعشى، بل أصبحت تنظم فى مقطوعات، لها وحدتها الموضوعية والمعنوية، تنبض بالحياة وتخفق بالجذل والسرور، لسبب طبيعى، هو أن ناظمها عاشق للخمر، وهو ينظمها فى غمرة عشقه، وكأنما تفجّر له ينابيع الفرح تفجيرا. واقرأ له هذه الخمرية:

اصدع نجىّ الهموم بالطّرب ... وانعم على الدّهر بابنة العنب

واستقبل العيش فى غضارته ... لا تقف منه آثار معتقب

من قهوة زانها تقادمها ... فهى عجوز تعلو على الحقب


(١) راجع الأغانى ٧/ ٤٦ وما بعدها، ٧/ ٧٢.
(٢) انظر الطبرى ٥/ ٥٥١.
(٣) انظر الأغانى ٧/ ٦٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>