للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لطول الحاجة ولطول وقوع البصر، مع ما يتوارثون من المعرفة بالداء والدواء (١)».

وكانت لهم عناية خاصة بالفراسة، والقيافة وهى تتبع الأثر فى الأرض والرمل، ولهم فى ذلك أقاصيص طويلة، وطبيعى أن تنمو عندهم القيافة ليتعقبوا من يضل منهم فى الصحراء، أو ليتعقبوا الأعداء الذين يغيرون عليهم وينهبون أموالهم ونساءهم فى غيبتهم عن أحيائهم.

وهذه الضروب جميعها من المعرفة ضروب أولية، تقوم على التجربة الناقصة ولا تؤسّس على قاعدة ولا على نظرية، فهم فى جمهورهم بدو، ليسوا أصحاب علم ولا نظر عقلى مؤسس على أسلوب علمى. ولعله من أجل ذلك شاعت عندهم العيافة وهى التنبؤ بملاحظة حركات الطيور، وقد اشتهر بها بنو أسد وبنو لهب، وكانوا يتيامنون بها ويتفاءلون إن جرت يمنة ويتشاءمون إن جرت يسرة، ولهم فى الطّيرة أحاديث كثيرة، قال الجاحظ: «وأصل التطير من الطير إذا مرّ بارحا (ميامنا) وسانحا (مياسرا) أو رآه يتفلى وينتف، حتى صاروا إذا عاينوا الأعور من الناس أو البهائم أو الأعضب أو الأبتر زجروا عند ذلك وتطيروا. . فكان زجر الطير هو الأصل، ومنه اشتقوا التطير، ثم استعملوا ذلك فى كل شئ. . وللطيرة سمت العرب المنهوش بالسليم والبرية بالمفازة وكنوا الأعمى أبا بصير والأسود أبا البيضاء وسموا الغراب بحاتم. والغراب أكثر من جميع ما يتطيّر به فى باب الشؤم (٢)».

ولإيمانهم بباب الطيرة كانوا يستقسمون بالأزلام والقداح، وهى سهام، كانوا يكتبون عليها عبارات يصدرون عنها مثل الآمر والناهى والمتربص، وهى غير أزلام القمار وقداحه.

وكل هذا يدل على أن التسبيب العقلى عندهم كان ضعيفا، وأنهم كانوا لا يحسنون ربط المسببات بأسبابها ربطا محكما، وهذا طبيعى فقد كانوا فى طور البداوة، فلم يكونوا يفهمون الارتباط بين العلة والمعلول وكانوا لا يتعمقون فى بحث الأشياء، إنما كانوا ينظرون إليها نظرا عارضا أو خاطفا. يقفون عند الجزئيات، ولا يتعلقون بمدركات كلية أو نظرات شاملة فكل ذلك لا يطوف بالدائرة التى يحيونها دائرة الحياة الفطرية الساذجة. وحقا شاعت عندهم الحكمة، ولكن لا بمعناها


(١) الحيوان ٦/ ٢٩.
(٢) الحيوان ٣/ ٤٣٨ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>