للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وما نتقدم معه إلى عهد عمر، حتى نجد أبا سفيان ينسبه إلى نفسه مدعيا أبوته، وقد تكون نسبة صحيحة، وإن تضمنت أنه لم يولد لرشدة. وليس بين أيدينا شئ واضح عن نشأته. ونراه يخرج مع الجيوش الغازية فى الشرق، وسرعان ما يعهد إليه عتبة بن غزوان قائد عمر فى فتوح الأبلّة تسجيل الغنائم وقسمها فى الناس، مما يدلّ على إتقانه الكتابة والحساب. ويلزم ولاة البصرة يكتب لهم، ويوفده واليها أبو موسى الأشعرى إلى عمر، فيعجب بذكائه ولسنه، ولكنه يأمر بعزله، فيقول له: يا أمير المؤمنين أعن عجز أم عن خيانة صرفتنى، فيرد عليه: لا عن واحدة منهما ولكنى أكره أن أحمل على العامة فضل عقلك (١).

ويعود إلى البصرة حتى إذا كان عهد عثمان اتخذه عبد الله بن عامر واليها كاتبا له، ويفسد ما بينهما فيعزله، حتى إذا صار العراق لعلى وولّى على البصرة ابن عباس جعله على خراجها، وأنابه عنه أحيانا، وأظهر فى أثناء نيابته له حنكة، ذلك أن معاوية دسّ إلى تميم بعض من أفسدها على علىّ، فاستجار زياد بالأزد واستطاع بما أوقع بينهما أن يعيد الأمر إلى نصابه، وأن يعود بتميم إلى طاعة إمامه. ولما فسدت فارس على علىّ أرسل به إليها واليا عليها، فرمّ الفساد وأصلح الشّعث ورأب الصّدع متوسلا إلى ذلك بمهارة سياسية فائقة، إذ «بعث إلى رؤسائها، فوعد من نصره ومنّاه، وخوّف قوما وتوعّدهم، وضرب بعضهم ببعض، ودلّ بعضهم على عورة بعض، وهربت طائفة، وأقامت طائفة، وقتل بعضهم بعضا، وصفت له فارس فلم يلق فيها جمعا ولا حربا، وفعل مثل ذلك بكرمان (٢).

ويقال إن أهل فارس كانوا يقولون: «ما رأينا سيرة أشبه بسيرة كسرى أنو شروان.

من سيرة هذا العربى فى اللين والمداراة (٣)». ولما قتل علىّ ظل على عهده لابنه الحسن. حتى إذا تحوّلت مقاليد الأمور إلى معاوية اعتصم بفارس، فكاتبه معاوية متوعدا، ثم أخذ يتلطف له ووسّط لديه المغيرة بن شعبة الثقفى، ذاكرا ما بينهما من الرّحيم، وما زال به، حتى دخل فى طاعته. وفرح به فرحا عظيما.

إذ كان يعرف فضله، وأنه لا غنى له عنه فى استصلاح العراق، ولما صار إليه


(١) البيان والتبيين ١/ ٢٦٠.
(٢) طبرى ٤/ ١٠٦.
(٣) طبرى ٤/ ١٠٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>