للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جمع الناس وصعد المنبر، وأجلسه بين يديه، وأشهد الحاضرين على نسبته لأبيه، وشهدت بذلك منهم جماعة. غير أن كثيرين ظلوا يشكّون فى هذا النسب ويتهمونه. ولم يلبث معاوية أن ولاّه البصرة وخراسان وسجستان سنة ٤٥ للهجرة.

فأظهر من الحزم وحسن التدبير ما جعل معاوية يضم إليه الكوفة حين مات واليها المغيرة بن شعبة، وبذلك أصبح واليا على العراق جميعه حتى وفاته سنة ٥٣ للهجرة. وقد أخذ الفسّاق والجناة بالعنف والشدة، وكذلك صنع بالخوارج والشيعة وقصته مع حجر بن عدى مشهورة، فقد أرسل به إلى معاوية، وهناك لقى حتفه. على أنه كان يخلط سياسته باللين، ولم يكن يعمد إلى سفك الدماء إلا حين تعجزه الحيلة، وقد اتبع سياسة ضرب القبائل بعضها ببعض حتى يشغلهم عنه وعن الدولة. ومن المحقق أنه كان سياسيّا ماهرا بعيد النظر يحسن تصريف الأمور إلى أبعد غاية.

وكان خطيبا لا يبارى فى جودة خطابته، يعرف كيف يصوغ كلمه صوغا تهشّ له الأسماع وتصغى له القلوب والأفئدة، وقد نوّه بخطابته كثير من معاصريه على شاكلة قول الشّعبى: «ما سمعت متكلما على منبر قط تكلم فأحسن إلا أحببت أن يسكت خوفا من أن يسيئ إلا زيادا فإنه كلما أكثر كان أجود كلاما (١)». وخطبه مثل خطب الحجاج تدور فى موضوعين هما السياسة والمواعظ الدينية، وقد بقيت من خطبه الأولى شظايا وفقر وخطبة طويلة هى أروع خطبة سياسية خلّفها هذا العضر، وهى الملقبة بالبتراء (٢)، سمّيت بذلك لأنها لم تبتدئ بالتحميد والتمجيد (٣)، وقد أدخله عليها بعض الرواة.

والخطبة تجمل سياسة زياد التى اشتهر بها والتى ردّت إلى البصرة أمنها بعد أن عاث فيها الفسّاق واللصوص واضطرب حبل النظام، وقد بدأها بتصوير ما صار إليه أهلها من الفساد وشيوع الفسق والانحراف عما رسم الله للمسلمين فى كتابه من السيرة المستقيمة الطاهرة، يقول:


(١) البيان والتبيين ٢/ ٦٥.
(٢) انظرها فى البيان والتبيين ٢/ ٦٢ وعيون الأخبار ١/ ٢٤١ والعقد الفريد ٤/ ١١٠.
(٣) البيان والتبيين ٢/ ٦ وانظر ٢/ ٦٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>