للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«أما بعد فإن الجهالة الجهلاء (١) والضلالة العمياء والغىّ الموفى بأهله على النار ما فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام ينبت فيها الصغير ولا ينحاش (٢) عنها الكبير، كأنكم لم تقرءوا كتاب الله ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته فى الزمن السّرمد (٣) الذى لا يزول، أتكونون كمن طرفت (٤) عينيه الدنيا وسدّت مسامعه الشهوات واختار الفانية على الباقية ولا تذكرون أنكم أحدثتم فى الإسلام الحدث الذى لم تسبقوا إليه من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله وهذه المواخير (٥) المنصوبة والضعيفة المسلوبة فى النهار المبصر، والعدد غير قليل. ألم يكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج (٦) الليل وغارة النهار؟ ! قرّبتم القرابة وباعدتم الدين، تعتذرون بغير العذر وتغضون على المختلس. أليس كل امرئ منكم يذبّ عن سفيهه صنع من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معادا. ما أنتم بالحلماء ولقد اتبعتم السفهاء، فلم يزل بهم ما يرون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام».

وعلى هذا النحو استهلّ خطبته بتجسيم صور الفساد التى انتهت إليها حياة الناس فى البصرة، وهو فى أثناء ذلك يقرّع سامعيه بأنهم انتبذوا كتاب الله وراء أظهرهم مؤثرين الفانية على دار الخلود، وكأنما عادوا يجترّون حياتهم الوثنية القديمة وكل ما كان فيها من إثم. حتى إذا بلغ من ذلك كل ما أراد انتقل يصور خطّته فى حكمهم وما أعدّه لهم من ضروب العقوبات، يقول:

«إنى رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله: لين فى غير ضعف وشدة فى غير عنف، وإنى أقسم بالله لآخذنّ الولىّ بالمولى (٧) والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والمطيع بالعاصى والصحيح منكم فى نفسه بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: (انج سعد فقد هلك سعيد) أو تستقيم لى قناتكم. . من نقب منكم عليه فأنا ضامن لما ذهب له، وإياى ودلج الليل فإنى لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه. . وإياى ودعوى (٨) الجاهلية فإنى لا آخذ


(١) الجهلاء: وصف مؤكد كما تقول ليلة ليلاء.
(٢) ينحاش: ينفر.
(٣) السرمد: الدائم.
(٤) طرف عينه: أصابها بشئ فدمعت.
(٥) المواخير: جمع ماخور، وهو بيت الريبة.
(٦) الدلج: السير فى الليل.
(٧) الولى: السيد، المولى: العبد.
(٨) دعوى الجاهلية: قولهم يالتميم مثلا، إثارة من الشخص لقومه.

<<  <  ج: ص:  >  >>