للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيما أحببنا، ولكم علينا العدل والإنصاف فيما ولّينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنّا بمناصحتكم لنا. . وادعوا الله بالصلاح لأتتكم فإنهم ساستكم المؤدّبون وكهفكم الذى إليه تأوون، ومتى يصلحوا تصلحوا، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتدّ لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم، ولا تدركوا به حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم فيهم لكان شرّا لكم. أسأل الله أن يعين كلاّ على كلّ. وإذا رأيتمونى أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على أذلاله (١)، وأيم الله إن لى فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاى».

وزياد فى هذه الفقرة يستلهم فكرة التفويض الإلهى المعروفة عند الفرس، إذ كانوا يؤمنون بأن ملوكهم مفوّضون لحكمهم من قبل ربهم، وفى ذلك دلالة واضحة على تأثر الخطباء بالأفكار الأجنبية. وهو يلوّح لسامعيه بما فى يد الدولة من أموال الخراج ومغانم الحروب وأنها ستنثرها على رعاياها المطيعين الموالين لها نثرا، ولا يلبث أن يهدّد من تحدّثهم أنفسهم بنقض الطاعة أنهم إن صنعوا فالسيف ينتظرهم وضرب الرقاب.

والخطبة على هذا النحو خطبة سياسية خالصة، إذ ترسم سياسة زياد وطريقته فى الحكم من جميع أطرافهما. وهى مقسّمة إلى فقر تتسلسل فيها الأفكار تسلسلا دقيقا، وكل لفظة تقع فى مكانها وقرارها مع جمال الديباجة ووضوح الدلالة، فلا توعّر ولا تعقيد ولا كلم غريب.

وكان زياد بحكم خطابته فى الجمع والأعياد يعمد إلى الوعظ كثيرا، وهو فيه يبدع، كما يبدع فى خطبه السياسية، ونسوق له من هذا الباب موعظة يقال إن عبد الملك بن مروان كتبها بيده، وهى تطرّد على هذا السياق (٢):

«إن الله عز وجلّ جعل لعباده عقولا عاقبهم بها على معصيته وأثابهم بها على طاعته، فالناس بين محسن بنعمة الله ومسئ بخذلان الله إياه. ولله النعمة على المحسن والحجة على المسئ. فما أولى من تمت عليه النعمة فى نفسه ورأى العبرة فى غيره أن يضع الدنيا بحيث وضعها الله، فيعطى ما عليه منها ولا يتكثّر


(١) اذلاله: وجوهه.
(٢) البيان والتبيين ١/ ٣٨٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>