للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأرزاق ومن شقّ بعض القنوات والأنهار، وتكلم الوفد، وهو ساكت، فطلب إليه عمر أن يتكلم، فما كاد يتمّ كلامه حتى أعجب بروعة منطقه إعجابا شديدا، يقول الجاحظ: «نظر عمر إلى الأحنف وعنده الوفد، والأحنف ملتفّ فى بتّ (١) له، فترك جميع القوم واستنطقه، فلما تبعّق (٢) منه ما تبعق، وتكلّم بذلك الكلام البليغ المصيب وذهب ذلك المذهب لم يزل عنده فى علياء، ثم صار إلى أن عقد الرياسة ثابتة له (فى تميم) إلى أن فارق الدنيا» (٣). ويقولون إنه استبقاه عنده حولا كاملا ليبالغ فى تصفح حاله. وعاد إلى البصرة وأخذ يفد على عمر من حين إلى حين كما أخذ يسهم مساهمة قوية فى فتوح فارس وخراسان لعهد عمر وعثمان، وأظهر براعة نادرة فى قيادة الكتائب والجيوش، إذ كان النصر دائما يرافقه.

ونراه فى وقعة الجمل يقف موقف الحياد من خصومة على والسيدة عائشة وطلحة والزبير، ومعه أربعة آلاف سيف من قومه أغمدت استجابة لرأيه، حتى إذا انتصر علىّ دخل هو ومشايعوه من تميم فى طاعته، وأصفاه ولاءه، حتى إذا كانت وقعة صفّين أبلى فيها بلاء حسنا هو وقومه. وتذكر الروايات أنه كان ممن رأوا مواصلة القتال مع أهل الشام وأنه أشار على علىّ أن يحكّم شخصا آخر غير أبى موسى الأشعرى ينهض أمام خبث عمرو بن العاص ودهائه. وما زال على ولائه لعلى إلى أن لبىّ ربه فدخل فيما دخل فيه الناس من البيعة لمعاوية. وكان معاوية وولاته وخاصة زيادا يكبرونه إكبارا عظيما، ونراه يصبح سفيرا لقومه لدى معاوية، فهو يفد عليه من حين إلى حين، ويوسع له فى مجالسه، بل لقد كان يختصه بالجلوس فى جواره على سريره.

وفى هذه الحقبة من حياته يصبح أكبر شخصية فى البصرة، بعد ولاتها، وفى الحق أنه كان يجمع كل مزايا السؤدد من حلم وأناة وبعد نظر وعمل على مصلحة القبيلة، حتى قالوا إنه كان إذا غضب غضب له مائة ألف سيف لا يسألونه فيم غضب. وبلغ من سؤدده أنه لم يكن يدارى، وأنه كان يجهر برأيه


(١) البت: كساء صوفى غليظ.
(٢) تبعق المطر: تفجر وانسال.
(٣) البيان والتبيين ١/ ٢٣٧ وانظر ١/ ٢٥٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>