للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا يخشى لومة لائم، حتى الخليفة مع اصطناعه له وولائه كان إذا سأله فى شئ يعرف رغبته فيه، وهو لا يريده، جاهره برأيه فى رفق، ومن خير ما يمثل ذلك كلمته عقب الوفود التى استقدمها معاوية للبيعة لابنه يزيد، فإنه حين جاء دوره فى الكلام قال (١):

«يا أمير المؤمنين أنت أعلم بيزيد فى ليله ونهاره وسرّه وعلانيته ومدخله ومخرجه، فإن كنت تعلمه لله رضا ولهذه الإمة فلا تشاور الناس فيه، وإن كنت تعلم منه غير ذلك فلا تزوّده الدنيا وأنت تذهب إلى الآخرة».

وكأنه لم يكن يرضى خلافة يزيد، فدخل إلى تصوير رأيه هذا المدخل الرفيق. ويتوفّى يزيد، ويضطرّ عبيد الله بن زياد إلى مغادرة البصرة ويسلم أمورها إلى الأزد وزعيمها مسعود، وتثور تميم وتقتله، وتنشب الحرب بينها وبين الأزد، ويقع بعض الصرعى، فيتدخل الأحنف، ويحقن الدماء بين الطرفين المتنازعين، مؤديا ديات القتلى من ماله. وتخضع العراق لابن الزبير، وتدخل تميم بزعامة الأحنف فى طاعته، ويقرّبه مصعب ويصبح من خلصائه، فيقف معه فى حرب المختار الثقفى، ولا يمتد به أجله، إذ يتوفى فى أواخر العقد السابع من القرن الأول مبكيّا من قومه وعارفيه، ويروى أن فرغانة بنت أوس بن حجر التميمية وقفت على قبره، فأبّنته قائلة (٢):

«{إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ}، رحمك الله أبا بحر (٣) من مجنّ (٤) فى جنن، ومدرج فى كفن، فو الذى ابتلانا بفقدك، وأبلغنا يوم موتك، لقد عشت حميدا، ومتّ فقيدا، ولقد كنت عظيم الحلم، فاضل السّلم، رفيع العماد، وارى الزّناد، منيع الحريم، سليم الأديم، وإن كنت فى المحافل لشريفا، وعلى الأرامل لعطوفا، ومن الناس لقريبا، وفيهم لغريبا، وإن كنت لمسوّدا، وإلى الخلفاء لموفدا، وإن كانوا لقولك لمستمعين، ولرأيك لمتبعين».

ومرّ بنا آنفا كيف أن عمر بن الخطاب أعجب ببلاغته وحسن بيانه، ووصفه الجاحظ فقال إنه «أنف مضر الذى تعطس عنه وأبين العرب والعجم


(١) العقد الفريد ٤/ ٣٧٠.
(٢) البيان والتبيين ٢/ ٣٠٢.
(٣) أبو بحر: كنية الأحنف.
(٤) أجنه: ستره. تريد أنه ستر فى الجنن أى وضع فى القبر.

<<  <  ج: ص:  >  >>