للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قاطبة (١)». ونحن لا نقرأ خطبه التى كان يلقيها بين أيدى الخلفاء، حتى يروعنا منطقه، لقدرته على حوك الكلام وتوشيته أحيانا بالسجع وأساليب التصوير.

ولم يكن يطيل فى هذه الخطب، بل كان يعمد إلى الإيجاز والكلم القصار، فيبلغ بها كل ما يريد من حاجته وحاجة قومه، ونسوق له كلمتين تصوران منطقه، فقد وفد على معاوية مرة، فقال يصف أهل البصرة وما يؤملونه فى الخليفة من مدّ يد العون والمساعدة (٢):

يا أمير المؤمنين أهل البصرة عدد يسير وعظم كسير، مع تتابع من المحول واتصال من الذّحول (٣)، فالمكثر فيها قد أطرق (٤)، والمقلّ قد أملق، وبلغ منه المخنق، فإن رأى أمير المؤمنين أن ينعش الفقير، ويجبر الكسير، ويسهل العسير، ويصفح عن الذّحول ويداوى المحول، ويأمر بالعطاء ليكشف البلاء، ويزيل الّلأواء (٥). وإن السيد من يعمّ ولا يخصّ ومن يدعو الجفلى (٦)، ولا يدعو النّقرى (٧)، إن أحسن إليه شكر وإن أسئ إليه غفر، ثم يكون من وراء ذلك لرعيته عمادا يدفع عنها الملمات، ويكشف عنها المعضلات».

وبمثل هذا اللحن من القول كان يقدّمه الخلفاء لبلاغته وحسن تأتّيه فى تصوير ما جاء من أجله، إذ كان يسلك إليه المداخل الدقيقة، فيمضونه فى التوّ والساعة. ويظهر أنه قال هذه الكلمة عقب حروب على ومعاوية ولذلك مضى يطلب إليه الصفح الجميل، مستعطفا، ولكنه الاستعطاف الذى يبقى فيه الرجل الكريم على مروءته. ودائما كلما قرأناه أحسسنا عنده رجاحة العقل وأنه لا يرسل كلامه إرسالا، بل ما يزال يتمهل فيه، سواء عمد إلى السجع أو لم يعمد، موردا من اللفظ ما يحيط بالمعانى التى يعبّر عنها إحاطة تامة، وتصور ذلك كلمته الثانية التى أشرنا إليها كما صورته كلمته الآنفة، وقد ألقى بها حين ادلّهم الأمر بعد وفاة يزيد بن معاوية واصطدام الأزد بقبيلة تميم، فقد توجه إلى الأولين يقول بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيه (٨):


(١) البيان والتبيين ١/ ٦٠.
(٢) زهر الآداب ١/ ٤٦
(٣) الذحول: الثارات.
(٤) أطرق: هزل وضعف.
(٥) اللأواء: الشدة.
(٦) الدعوة الجغلى: الدعوة العامة.
(٧) الدعوة النقرى: الدعوة الخاصة.
(٨) البيان والتبيين ٢/ ١٣٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>