للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وليس هذا كل ما أهدوه إلى النثر العربى، فإنهم أهدوا إليه أيضا كثيرا من الوصايا البلاغية التى يموج بها كتاب البيان والتبيين للجاحظ، إذ تحولوا يعلّمون شباب البصرة والكوفة كيف يحسنون خطابتهم سواء من حيث إشاراتهم أم من حيث منطقهم أم من حيث تنقيح معانيهم أم من حيث تصفية ألفاظهم، وكيف يلائمون بين اللفظ والمعنى وبين كلامهم ومستمعيهم وطبقاتهم، ومتى يستحبّ الإيجاز ومتى يستحب الإطناب، وكيف أن المعوّل دائما على وضوح الدلالة حتى يصنع الكلام فى القلوب صنيع الغيث فى التربة الكريمة. وبذلك هيأوا لظهور قواعد البلاغة العربية، ولعل من الطريف أن أقدم النصوص المتصلة بماهيتها تضاف إلى أحد متكلميهم ووعّاظهم، فقد روى الجاحظ أن سائلا سأل عمرو بن عبيد ما البلاغة؟ فأجاب (١):

«ما بلغ بك الجنة وعدل بك عن النار، وما بصّرك مواقع رشدك وعواقب غيّك، قال السائل: ليس هذا أريد، قال عمرو: فكأنك إنما تريد تحبير اللفظ فى حسن إفهام؟ قال: نعم، قال: إنك إن أردت تقرير حجة الله فى عقول المكلّفين وتخفيف المئونة على المستمعين وتزيين تلك المعانى فى قلوب المريدين بالألفاظ الحسنة فى الآذان المقبولة عند الأذهان رغبة فى سرعة استجابتهم ونفى الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة على الكتاب والسنة كنت قد أوتيت فصل الخطاب، واستحققت على الله جزيل الثواب».

وعلى هذا النحو كان تلاميذهم لا يزالون يدفعونهم إلى الحديث عن آلات البلاغة، وكيف يحرزون لأنفسهم التفوق فى الخطابة وفى المحاورة والمناظرة، ويؤثر عن خالد بن صفوان أنه كان يقول: «اعلم-رحمك الله-أن البلاغة ليست بخفة اللسان وكثرة الهذيان، ولكنها بإصابة المعنى والقصد إلى الحجة» (٢) وكان شبيب بن شيبة يقول: «الناس موكّلون بتفضيل جودة الابتداء وبمدح صاحبه، وأنا موكّل بتفضيل جودة القطع وبمدح صاحبه، وحظّ جودة القافية وإن كانت كلمة واحدة أرفع من حظ سائر البيت (٣)». ولم يكونوا يتفقدون


(١) البيان والتبيين ١/ ١١٤ وانظر العقد الفريد ٢/ ٢٦٠ وزهر الآداب ١/ ٩٣.
(٢) العقد الفريد ٢/ ٢٦١.
(٣) البيان والتبيين ١/ ١١٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>