للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا يأتى عفوا، وإنما يأتى من تصفّح الأدلة ومعرفة صحيحها من سقيمها وجيدها من زائفها.

فإذا قلنا إن الخطابة العربية تطورت تطورا واسعا بتأثير عقول هؤلاء المتكلمين لم نكن مغالين، إذ دعمت فيها الأدلة ودقّت المعانى، واستتمت شعبا كثيرة من خفياتها ودفائنها. وليس هذا فحسب، فإن هؤلاء الوعاظ المتكلمين وازنوا بين خطابتهم والجماهير التى كانت تستمع إليهم، وكانت أخلاطا من خاصة وعامة ومن عرب وموال، ومن ثمّ فتحوا الأبواب واسعة للأسلوب المولّد الجديد، وهو أسلوب لا يرتفع عن الموالى وفئات العامة بما قد يكون فيه من لفظ غريب، ولا يهبط عن العرب وفئات الخاصة بما فيه من لفظ مبتذل، أسلوب وسط، عماده الفصاحة والوضوح.

ولم يكونوا يخطبون غالبا وقوفا شأن خطباء السياسة والمحافل، إنما كانوا يخطبون جلوسا، ومن حولهم تلاميذهم ومستمعوهم فى حلقات، وهم من هذه الناحية يعدّون محاضرين أكثر منهم خطباء بالمعنى الدقيق، وهيأ لهم ذلك شيئا من التروّى والتمهل كان له أثره فى روعة الأداء، حتى لنرى فريقا منهم يعمد إلى السجع فى وعظه مثل أسرة الرقاشيين (١)، وكان بينها غير متكلم مثل الفضل ابن عيسى الرقاشى. ولكن هذا ليس الأسلوب الذى شاع فى تلك البيئة، إنما شاع أسلوب آخر كان يقوم على الازدواج والترادف، وهو واضح فى خطبة واصل التى مرّت بنا، وفى خطابة الحسن البصرى وغيلان (٢) الدمشقى، وإنما ألجأهم إليه ضيق معانى الوعظ، فاضطروا إلى الترادف وترداد الكلام. ومن غير شك هم الذين أعدّوا لهذا الأسلوب الذى نراه ينتقل منهم إلى عبد الحميد ومن تلاه من كتاب العصر العباسى أمثال الجاحظ، ولا أغلو إذا قلت إنهم أعدوا لشيوع لون الطباق فى كتابات العباسيين، فقد جعلهم حديثهم عن الطاعة والعصيان والحياة والموت والجنة والنار يصوغون خطابتهم على المطابقة والمقابلة بين المعانى.


(١) انظر فى هذه الأسرة البيان والتبيين ١/ ٣٠٦ وما بعدها.
(٢) انظر فى مواعظه عيون الأخبار ٢/ ٢٤٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>